ذات مساء تنادى المحققون والمخبرون والوكلاء والقضاة إلى اجتماعٍ طارئ، في قاعة اجتماعات محكمة الحب، لدراسة ملف قضية المتهم بارتكاب خيانة الأمانة التي أودعتها لديه السماء، فأحيته بعد موات طويل، وآنسته بعد سنين من الخوف والوحشة، وجعلته يستقر، بعد أزمنةٍ من التيه والغربة والتشرد والضياع.
قال كبير المحققين: يُستحسن قبل البدء بأي شيء، أن نطلع على سيرة حياة المتهم، فاتقدت عيون المخبرين، وانفرجت أساريرهم، وانكبوا لإخراج ما لديهم من تقارير تتضمن ذلك.
وقعت عين رئيس الجلسة على ورقةٍ مكتوب في بدايتها بالخط العريض، وبلون أحمر: الدمعة الأولى.
شده العنوان، فراح يجول بعينيه في زواياها، سطراً سطرا، ويتهجاها كلمةً كلمة.
مجاهد، مولودٌ نهاية عقد الثمانينيات، من القرن العشرين.
صاده العمى.
عاثت به يد الجهل.
تحاشته عيون أبيه ومجالس القبيلة.
بكت أمه لعماه كثيراً.
وربما بكت فيه نفسها، لاسيما أنها صارت تُعرف بين نساء القرية: بأم الأعمى.
كان مجاهد يكبر، ويكبر حزنه معه.
فلا أبوه يعامله كما يُعامل أقرانه، من قبل آبائهم.
فلطالما تمنى قطعة حلوى، يتذوقها، كلما سمع الأطفال يقرمشون ما لديهم، من طرزان وبطاطس، ويكشكشون بقراطيس وأكياس الشكلاتات، والشكاليت المعسل.
وكم حن إلى اللحظة التي يكون فيها قد امتلك دراجة صغيرة.
أو جاكيت من تلك التي كان الأطفال يسمونها: أبو سويس.
كيف سيمتلكه، وأبوه لا يتفضل بكسوته إلا ليلة العيد، وبعد أن تسقي أمه القرية من مياه عينيها، أسفاً على ولدها، وتوسلاً واستعطافا لأبيه؟
لقد عاش إذن حالة من الإحساس بالحرمان، وبدأ يشعر بالنقص.
صحيح لم يعترف بذلك، لكنه كان بادياً على سلوكه وتصرفاته.
إنه ينتحب كثيراً، كلما قيل له: يا أعمى.
يبتهج أيما ابتهاج كلما أقدم على ضرب أحد، أو تمكن من كسر أو إتلاف شيء خاص ببيتهم أو بجيرانهم!
صحيح أنه عدل عن هذا النمط بعد أن تصادق مع جهاز المذياع، لكنه يظل فصلا من حياته، تجب معرفته.
مضت السنون من منتصف التسعينيات، حتى السنة التاسعة والتسعين ومجاهد جليس الإذاعة، يبكي، يغني، يبتسم، يقهقه.
سمع البردوني، عرف طه حسين، أخذ بأطراف ثوب المعري، ناغى بشار بن برد مرات ومرات.
وفي صبيحة ١٥ أيلول، من العام ١٩٩٩م طار به نسر الغربة عن مرتع صباه، بعد انتزاعه من حضن أمه، ليرمي به بعيداً، في عالم كله من العميان.
كان يمتلك قميصين وبنطالين، وغيارين داخليين، لبسهم جميعاً حتى بدت كل قطعة كجلد الحية، كل سنة بلون مختلف، وظل محتفظا بالغيارين الداخليين، حتى تراصت في خياطهما القمل كحبات المسبحة!
وكان لديه حذاء مقطع من كل اتجاه.
جاع، وعطش، ضُرب، تألم، عانى، تعب استغاث، أن، وما من مجيب، أو منقذ.
حاول مجاهد نسيان كل ذلك، بالانكباب على الكتب، والمذاكرة، حسن من مظهره بعد أن حصل على ضمان اجتماعي.
بحث بين كل مَن لقيهم عن صديق، وعن حبيبة.
عاد من كل جولاته خاسراً.
انتهت الثانوية العامة بموت أبيه.
وانتصفت دراسته الجامعية آخذة بانتصافها أمه.
لم تكد تمر على وفاة أمه أربعون يوماً، حتى فقد حضن الحبيبة التي عاش لها مدة من الزمن، وظن حضنها ملاذه ومأمنه.
أفاق على لا شيء.
تسرب مع كل ريح، تبع أكثر من خيط.
وذات مساء جاءه السفر الأول، من وحي ديانة الأمل.
إنها قصيدة المطر.
ثم توالت الأسفار من وحيها على سمعه.
أحب فيها الروح، قبل الجسد، والطيف قبل الكينونة، والماهية قبل الوجود الذاتي.
عشق فيها الشاعرة.
وكانت قصيدته: وجدان شاعرة، مبعوث قلبه الأول، إلى الملكة التي ستتربع عليه.
كما كانت الدمعة الأولى هي فاتحة الحب، التي تلياها معاً ذات مساء، كان بالنسبة لمجاهد: ليلة قدر، أهدته النجمة التي طارت به إلى ظهر الجوزاء، وانتشلته من بين ركام القهر والفناء، وجدان شاعرة، ودمعة خلقاني من جديد، فحلت سروري وجداني، وحللت وجدانها.
فكنا روحا في جسدين، وذاتا لكيانين.
* نقلا عن : لا ميديا