قال الشهيد أبو صلاح القوبري (سلام الله عليه): «إن الشهيد الملصي، قبيل إعلانه القرار الحاسم الذي يقضي بالتحاقه بجبهات القتال وميادين الجهاد والاستشهاد، رأى مشاهد الغارات التي استهدفت أسرةً بكاملها، والتي اختلطت أشلاؤها بركام المنزل المستهدف الذي تحول إلى أثرٍ بعد عين، وما إن وقع بصره على تلك الأشلاء وهي تُنتَزعُ من تحت الركام حتى أخذ يجعل كل فردٍ من أفراد تلك الأسرة يحل محل فردٍ من أفراد أسرته هو، فالطاعنةُ بالسن أمهُ، وربة الأسرة أخته، والطفلة ابنته، والطفل كذلك ابنه، حتى إنه خلع عليهم أسماء ذويه واحداً واحداً».
كما أن هناك أكثر من مقطع لأبي حرب يبين لنا ما الذي يعنيه له المجتمع اليمني، إذ لم تغب عن ناظريه لحظةً واحدةً صورة الأب المكلوم على ذويه والمفجوع بفلذات كبده، صاحب مقولة: «بعيني يا سعودي»، إلى أن أهداه أول انتصار حققه المجاهدون من خلال رسالته التي تضمنت في فحواها قلع عين من عيون السعودية، والعهد على المضي لاقتلاع عينها الأخرى، بالإضافة إلى أنه كان يرى في المرأة اليمنية عرضه وشرفه أينما حلت، ومن أي منطقة كانت.
والآن ما الذي يمكن لنا استيحاؤه من كل تلك المواقف؟ لاسيما إذا ربطنا بينها وبين عقد البيع والشراء الذي تم بين الملصي وبين الله سبحانه وتعالى، إن هناك الكثير من الدروس والعبر التي حملتها تلك المواقف، لعل أبرزها:
أولاً: إن مجاهدينا كانوا يتمتعون بمعرفة الواقع بكل أبعاده وتفاصيله، سواءً ما كان متعلقاً بمجتمعهم، أو ما كان متعلقاً بطبيعة وخلفية قوى العدوان، الأمر الذي حول تلك المعرفة إلى أفكار وقناعات دفعتهم لاتخاذ موقف والتحرك للتعبير عنه واقعاً.
ثانياً: إن تلك المعرفة بالواقع لم تكن مجرد معلومات بالأوضاع والقضايا التي تتوزع على مختلف صنوف الحياة ومجالاتها فقط، بل كان هنالك الحس الواعي بكل مجريات الواقع بما فيه من قضايا وأحداث، ولذلك اكتسبت المعرفة قيمتها، إذ جعلها الإحساس الواعي تتحول إلى حركة انفعال في الواقع بهدف الفعل به، من خلال اندماج روحي بكل ملامح المستقبل وأوضاعه وتطلعاته، وهكذا كان للمعرفة التامة والحس الاجتماعي الواعي الأثر الكبير في بناء وتشكل شخصيات هؤلاء الأبطال، وخصوصاً أن هاتين القيمتين قامتا على أساس المعرفة بالله، وبموجب الإيمان به وإقرار العبودية المطلقة له وحده.
ثالثاً: إن الفارق بين المجاهدين في ساحات القتال وبين مؤسسات الدولة الأخرى، الذي قضى بنجاح وتقدم رجال البندقية، وتسبب فقدانه لدى معظم الوزارات والمؤسسات بإبقائها تراوح مكانها، هو الإحساس بالمجتمع والاندماج الشعوري والوجداني مع الناس، فهموم المجتمع ومعاناته وقضاياه ومشاكله وحاجاته عند مسؤولينا مجرد معلومات وأرقام، اكتفوا بحفظها وترديدها، واحتجبوا عن الواقع سوى من نظرةٍ يلقونها من بعيد، فلا تلامس إلا السطح من كل شيء.
* نقلا عن : لا ميديا