عُرِفَ المبطلون من كافرين ومنافقين عبر التاريخ البشري، بتحركهم المنافي للفطرة، القائم على ظلم الناس وظلم أنفسهم، من واقع التحكم والسيطرة لعقدة الاستكبار على عقولهم ونفسياتهم، إلى الحد الذي يجعلهم يُخضعون كل مفاهيمهم وتصوراتهم، ومشاعرهم وأعمالهم ومواقفهم لما تمليه عليهم تلك العقدة، حتى وإن اقتضى ذلك دخولهم في حرب شاملة ضد كل حركة تسعى لبسط العدل وتحقيق المساواة، وكل دعوة تعمل على تصحيح المفاهيم والأفكار على أساس الحق الذي تلتزمه وتدعو البشرية إلى الرجوع إليه، باعتباره دين الله الذي ارتضاه لعباده، وشرعته التي أمرهم باتباعها والسير عليها، والعجيب أن هؤلاء المبطلين لا يقبلون بالحق ولا ينفتحون عليه بقليلٍ أو كثير، ولا من قريب أو بعيد، حتى وإن أدت المواجهة بينهم وبين حملة الرسالة ودعاة الحق إلى هزيمتهم، فهم لا يكادون يفشلون في مرحلة أو يتراجعون في موقع إلا واستأنفوا العمل من جديد بغرض عودتهم للسيطرة على واقع الحياة وفرض تصوراتهم المنحرفة وأحكامهم الجائرة على الناس.
وسلاحهم في ذلك هو المكر والخداع، الذي يدفعهم بين فترةٍ وأخرى إلى إيجاد الخطط التدميرية، التي لا يعني اكتشاف إحداها نهاية المطاف، وابتكار الأساليب المتنوعة، التي تسمح لحركتهم بالتحرك والانسياب بسهولة ويسر، دون أن تثير تلك التحركات أي علامة من علامات الاستفهام لدى جبهة الحق، إلى جانب ممارستهم للتخفي تحت أكثر من قناع، وقدرتهم على لبس الحق بالباطل، وانهماكهم على إثارة الشبهات، وتركيزهم المتواصل والدقيق على الساحة لكي يتمكنوا من استغلال أي فراغ أو قصور لصالحهم، وقد بين الله تعالى للمؤمنين في كتابه العزيز ذلك، في أكثر من سورة وأكثر من آية، منها قوله عز وجل: "وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال".
ويمكننا استيحاء عدة أمور من واقع ما اشتملت عليه هذه الآية المباركة، لعل أولها هو شدة المكر الذي يتخذه أهل الباطل كقاعدة لكل أعمالهم، إذ لو اتجهوا بهذا المكر نحو إزالة الجبال لأزالوها، وفي هذا التعبير كناية لتوضيح مدى الحقد الذي يملأ قلوبهم ومدى رغبتهم الجامحة باستئصال الحق وأهله من الوجود، ولولا أن الله لهم بالمرصاد، يكشف ما يدبرون ويكيدهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون، لبلغوا مرادهم وحققوا هدفهم.
وثانيها أن علينا أن نلتفت إلى مقارنة ما نعمله في سبيل الحق، وما يعمله المبطلون في سبيل باطلهم، فنحن يجب أن نكون الأكثر جدية وعزما وتصميماً منهم لعظمة ما نعتقده ونسعى لتحقيقه من خلال نتائجه العظيمة التي ستعود علينا في الدنيا والآخرة، كما أن وقوف الله معنا ورعايته وتأييده لنا لا بد أن ينعكس علينا وعياً وثقةً به، لنندفع في مواجهة خططهم وأساليبهم المعتمدة في حربهم علينا، وذلك ألا نكتفي بردة الفعل تجاه ما يواجهوننا به، بل لا بد من دراسة كل ذلك دراسة شاملة، تمكننا من تحصين الواقع، وإيجاد الخطط والبرامج التي لا تقف عند الدفاع بل تسير في خط الهجوم أبداً. وعلينا كذلك ألا نقف لننتظر ما تسفر عنه صراعات القوى الفاعلة عالمياً، وإنما نحرص على أن نعمل ونتحرك بعقلية من يملك القدرة على فرض وجوده وتغيير واقعه، من موقع الفعل وليس من موقع الانفعال.
* نقلا عن : لا ميديا