لقد عدتُ مصدوماً لهول ما سمعت، مثقلاً بالكثير من الأشياء التي انعكست على نفسيتي كخلاصة لمجمل ما لاقيته خلال رحلةٍ إلى مسقط رأسي لم تزد عن يومين بالتمام والكمال، رحلةٍ أنستني مرارة ما وجدته لدى أغلب مَن التقيتهم فيها كل أمنية رسمت ملامحها سبع سنوات من الفراق، سبع سنوات قضيتها ما بين لهفة حنين لمرتع صباي، أو تقلبٍ على جمر الشوق للقاء مَن جمعتني بهم رابطة الدم والرحم والجوار، رحلةٍ كشفت لي إلى أي مدى نحن مقصرون في نشر الوعي بضرورة التمسك بمبادئنا وقيمنا وقضايانا وحقوقنا كشعبٍ يمني، أراد أن ينتشل نفسه من دروب الضياع وانعدام الوزن، ويصنع حاضره، ويحدد ملامح مستقبله بيده، بناءً على ما يقتضيه فكره المعبر عن شخصيته الإسلامية الإنسانية، وتراثه وتاريخه الزاخر بالنماذج العظيمة والمواقف المشرفة، وعلى هدى التضحيات التي جاد بها الصامدون في سوح الثورة وميادين الجهاد منذ ضحى الحادي والعشرين من أيلول وحتى الساعة، والذين انطلقوا على بينةٍ من الله، تحت قيادة مَن مثل الامتداد للعترة، وحمل القرآن نوراً لهداية المستضعفين من الناس، وناراً على الطغاة والمستكبرين والظالمين أينما كانوا، وهي عوامل كافية لتحريض الناكل، وتنبيه الغافل وإيقاظ النائم وتعليم الجاهل وهداية الضال، ولكن لدى مَن يحسنون تمثلها والتزامها، ويجيدون التعريف بها في دعوتهم وممارساتهم وأفعالهم بين الناس.
واهمٌ مَن يعتقد أن الـmp3 وحده سيصنع قناعات جديدة منسجمة مع الفطرة وقضايا الحق والعدل، فتحل محل القناعات الباطلة والأفكار الناتجة عن ثقافات مغلوطة ظل المجتمع ينهل من سمومها ردحاً من الزمن، وواهمٌ كذلك مَن يظن أن ما تقدمه محطاتنا الإذاعية، وقنواتنا التلفزية كاف لاستنهاض المجتمع، وتحصينه من الوقوع تحت تأثير ما يتبناه العدو من ثقافات واتجاهات، ويرغب في تعميمه على الواقع كله.
لقد تكدس جل ما لدينا من ثقافيين وتوعويين واجتماعيين في العاصمة صنعاء، تاركين معظم المناطق للمجهول، معتبرين أن هذه المنطقة أو تلك مادامت تشارك بحجم جماهيري كبير في المظاهرات والمناسبات الدينية والوطنية منطقة على درجة عالية من الوعي والبصيرة، ولم تعد بحاجة لمَن يهتم لأمرها تذكيراً وتوجيهاً واهتماماً بمصالحها، ورعايةً وتربيةً لشبابها، وإصلاحاً بين أهلها، غير مدركين أن الخروج الجماهيري ليس مقياساً يمكن من خلاله تبين مدى وعي الجمهور في الغالب، إذ إن هناك مَن يخرج بدافع الحمية القبلية، كي لا تكون قبيلته أقل حضوراً من القبائل المجاورة، وهناك مَن يخرج عصبيةً للمشرف أو المسؤول الفلاني الذي هو ابن المنطقة وعين من أعيانها، والذي لن يكون موقفهم إلا معه أينما ذهب، وحيثما يميل أو يتجه، إذ لا يعنيهم النهج، ولا يهتمون بالقضية، بقدر ما يعنيهم الشخص الذي ينصب كل همهم واهتمامهم عليه نصرةً وحمايةً، فما يراه هو الواجب والصحيح كيفما كان وعلى أي حال أو دين أو ملّة.
ولكن مَن يقنع لنا الدوائر والمؤسسات الثقافية والتعبوية والإعلامية والاجتماعية التي ولدت من رحم الثورة المباركة بهذه القضية وسواها؟ لاسيما بعد أن ركزت جهودها على شبكات العالم الافتراضي، وكأن المجتمع اليمني كله بات هناك، ولم تعد هنالك حاجة للتفكير بإيجاد آلية للعمل خارج إطار هذا العالم بقليل أو كثير.
إننا اليوم مهووسون بالشكليات والمظاهر السطحية، منصرفون تماماً عن المضامين التي ترينا العمق والجوهر من كل شيء، أما كيف ذلك؟ فهذا ما سنبينه بقدر من التفصيل غداً بإذن الله.
* نقلا عن : لا ميديا