أصيبت أمتنا الإسلامية على إثر وقوعها في أسر الطغاة والمستبدين والظالمين في أغلب مراحلها التاريخية بحس التبلد، فلم تعد تمتلك القدرة على الجهر بالمطالبة بحق، ولا الدافع نحو امتلاك الإمكانية اللازمة للقيام بأداء واجب، الأمر الذي جعلها لا تتحرر من فراعنة إلا لتخضع لفراعنة جدد، ولا تثور على وضعية فاسدة إلا لكي تسقط في مثيلتها دونما زيادةٍ أو نقصان.
صحيحٌ أن لدينا ثروةً كبيرة، وتراثاً ضخماً، وموروثاً غنياً بالنماذج والشخصيات والتجارب العظيمة، القادرة على بناء حسٍ حقوقيٍ في وجدان كل فرد من أفراد الأمة، صغيراً كان أو كبيراً، رجلاً أو امرأة، عالماً أو متعلماً، حاكماً أو محكوماً، ولكن ذلك كله بقي في خانة الفكر المعياري، الذي لا يتعدى مسألة الكلام الإنشائي، الذي ليس له ما يؤيده في الواقع، من حيث كونه صادقاً، أو يثبت بطلانه وكذبه، عن طريق تقديم الشواهد التي تخالفه، وتسير بعكس اتجاهه، وتناقضه في الشكل والمضمون والهدف والنتيجة، وإنما يكتفي بتثوير العاطفة بشكل مؤقت، وتحميس الجماهير في ظرف ما، وبعث الزهو والخيلاء في محيط نفوسٍ محطمة، تظل تحلق في الفضاء، سابحةً في الأحلام، مكتفيةً في الواقع بالجري وراء الاحتمالات التي قد تساعد بعضها أو كلها في تغييره وإصلاحه، وهكذا استمر اللهاث خلف كل وهم، والجري باتجاه كل سراب يلوح للعين من بعيد كالماء الذي تحتاجه لري ظمأها، وما إن تقترب منه حتى تجد الموت المحقق بانتظارها دونما أملٍ بالنجاة من بين أنيابه ومخالبه.
أما لماذا حصل ويحصل كل ذلك؟ فالجواب: لأن كلًا منا لا يتحدث عن ضرورة صون الحقوق، وقدسيتها، وأهمية أداء الواجبات كاملة غير منقوصة، ومحوريتها، إلا عندما لا يكون على رأس سلطةٍ سياسية، أو محسوباً على جماعة أو فئة تمسك بزمام ومقاليد الحكم في موطنٍ ما على ظهر هذه البسيطة، ولكنه ما إن يصير أياً من هذين المكونين، أو يصبح مقرباً منهما بأي شكل من الأشكال، حتى يبادر من تلقاء نفسه في الدفاع عن كل ما كان يدعو لمحاربته والتصدي له بالأمس، ويدفع الناس دفعاً لخوض المعركة الحاسمة مع كل قواه ورموزه ومواقعه وقلاعه وأفكاره ومرجعياته.
هناك فرق: بين مسألة اتخاذك للحق مطيةً للوصول إلى مبتغاك وأهدافك النابعة من بيئة نفسك وما يعتمل فيها من صراعات بين نوازعك الذاتية، ومطامعك الخفية، وشهواتك المريضة، وبين أن تجعل من الحق بضاعتك، وتوطن نفسك على حملها والاتجار بها في كل الظروف، ولا هدف لك ولا غاية إلا الحفاظ عليها، وإيصالها إلى مريديها سليمة طاهرة كاملة نقية مستوفاة، ففي الأولى تتجه شيئاً فشيئاً إلى فرض نفسك كمحور للحق على الكل متابعته في كل ما يقول ويفعل، والتزام طريقته في كل شأن من شؤون الحياة، لكون المجعولية للحق نابعة منه، وصادرة عنه، ومبنية وفق إرادته، فهو القانون، والشريعة، والنظام، والعلم، والسياسة، والاجتماع، وكل شيء، أو قل: هو الإله، أو بمستوى الإله.
وفي الثانية تظل منشداً إلى الله، باعتباره الحق المطلق، وباعتبار المجعولية للحق له وحده، وليس لأحد الحق في التدخل بشأنها، في زيادة أو نقصان، وإنما الجميع مطالبون بتنفيذ ذلك الحق، والالتزام به، وإذا ما رأى أحدهم لنفسه حقاً بحكم منصبه أو موقعه ودوره القيادي فإن عليه من الواجب تجاه مَن له حق عليهم بذات المستوى في الدرجة والأهمية كحق من حقوقهم، فالحق كما يقول الإمام علي عليه السلام: أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له، ولو كان هنالك من أحد يجري له ولا يجري عليه، لكان ذلك خاصاً بالله سبحانه وحده، دون خلقه، لقدرته على عباده، ولكل ما جرت به بالعدل صروف قضائه.
* نقلا عن : لا ميديا