مساكين على كل حال، أولئك الكتاب والمثقفون والأكاديميون، الذين ظلت ذواتهم منسلخة عن جذورها الدينية والتاريخية والاجتماعية، وأصبحت أنظارهم مشدودة إلى العالم الغربي، تعد خطواته، وقلوبهم معلقة بين أصابعه، يقلبها كيف شاء، وأفكارهم سابحة في فضاءاته، محملة بكل ما أراد لها أن تحمله من فتات موائده، وسقط متاعه، وألسنتهم لاهجة بذكره، والثناء عليه، ونشر فضائله، والحث على ضرورة اللحاق بركبه، ولقد ظلوا عاجزين عن فعل شيء لصالح مجتمعاتهم، فلم يُحدثوا ثورة ثقافية، ولا نهضة علمية ولا صناعية، لكونهم لم يعودوا يمتلكون شخصية مستقلة، تمتلك حق التفكير والنقد والتحليل القائم على الحس بمجتمعاتها، والوعي للواقع، والمعرفة بالمشكلات التي تطوق الأعناق، وتنتزع روح الحياة والحركة، وتفرض على الجميع البقاء في خانة الصفر، والدوران في الفراغ، والسعي في سبيل اللاشيء، نظراً للطبيعة التي جُبِلوا عليها من قبل الغرب، الذي صاغهم كقولب جامدة، لا هدف لها سوى حمل وتخزين بضائعه، وبالتالي ليسوا بشيء، خلا أنهم مجرد متشبهين بالغرب، وصدى لصوته، وغراس له، في بيئة مختلفة عن البيئة الأصلية، لذلك يبقون عبارة عن أخشاب ثابتة على طول وعرض المجتمع، ولكن دون أن يجد الناس ثمرة لوجودها، أو يطمعوا بالتماس شيء من الظل منها.
والحقيقة أن الذنب ليس ذنبهم وحدهم، إذ يجب القول بإنصاف، إنهم ضحايا لجهتين متحالفتين، وإن بدا لنا في الظاهر أنهما مختلفتان ومتعاديتان، وأن لكلٍ منهما فكره وثقافته الخاصين به، وأهدافه المستقلة، فما قيمة اختلافهما إذن، طالما أنهما يصلان بمتبعيهما إلى ذات النقطة التي هي المدخل لحصول الضياع، وتنامي العبثية والتفاهة؟
هاتان الجهتان هما:
* الجهة المتخذة من الدين بمفهومه العام منهجاً للتفكير، وشريعة للحياة، ووسيلة للبناء الأخلاقي والروحي، ولكن أي دين؟ الجواب: الدين المتبنى أول مرة من قبَل قابيل، الدين الذي ساد على طول مراحل التاريخ البشري، ولم يتح للدين الحق الفرصة في أي مرحلة، لكي يصل إلى الناس، ويستوعبوه كما هو، دين يضع الإنسان جانباً، ويضحي بكل القيم والمعتقدات، ويقوم بتسخير تعاليم الله لصالحه، دين التحاسد والتقاطع والتدابر والتظالم والتقاتل والبغي والفساد، دين ظاهره التوحيد للخالق، وباطنه الشرك به، دين جعل البشرية تعبد ثلاثة أصنام باسم الله، وهي: السلطة، والثروة، والروحانيات، يقوم على رأس كل صنم منها، وجه يمثل الإله المنقسم إلى ثلاثة أوجه، ليس كالمسيحية، وإنما بهذا الشكل: فرعون رمز التسلط، قارون رمز الثروة، بلعام رمز السلطة الدينية، ولكلٍ دوره، فبينما الأول يغل يديك ورأسك وقدميك، فإن الثاني يعمل على نهب قوتك، أما الثالث فإنه يتجه إلى أذنيك لصب المواعظ التي تدعوك إلى المزيد من الإذعان والخضوع، باسم الصبر، واحتساب الأجر، والانشغال بنعيم الجنة.
* الجهة المتخذة من العلم والقدرة منهجاً وفكراً وديناً، وهي تسعى لتأليه الإنسان، وقطع العلاقة بالله، وتتخذ من البرجوازية وسيلة لخلق جنتها البديلة على الأرض، ولا قيمة لأي شيء إلا إذا كان عاملا للمزيد من الربح المادي، ولا هدف للإنسان سوى الإنتاج للاستهلاك، والاستهلاك للإنتاج، الأمر الذي حوله إلى عبد لحاجاته وغرائزه، وحصره عند البطن وما حولها، وأنزله من السماء، إلى الحضيض.
وهكذا بقي المسلمون بين نارين، فانتظار المخرج والخلاص، الذي لن يكون إلا بالعودة إلى الدين الحق.
* نقلا عن : لا ميديا