في لقاء على غير ميعاد أثناء تبادل أطراف الحديث وصولاً إلى ما يطلق عليها أنها قد تكون سُنن الدهر، أو بالأصح هكذا تتم الأمور، في جانب كيف يتعامل الحاكم مع شخصيات الإقطاع الجاهلي وضرورة احتوائهم ومراضاتهم والدفع بهم ليتصدروا المراحل وواجهة المشهد من جديد، كونهم من ذوي الصيت وأصحاب الوجاهة ولهم الفضيلة على الناس في التجارب، فهم أهل بيوت اختبرت النفوذ والإخضاع، ولو كانوا جبابرة وطغاة وانتهازيين ومتسلطين، وسينقلبون بمجرد أن تَهُب رياح تغيير جديد ليُعيدوا ضبط الإعدادات وإعادة التموضع...
لفت انتباهي واستوقفني تعليق أثناء النقاش: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام"، ليستدل بعد ذلك الأخ بما حصل في صدر الإسلام والعقدين الأولين، وكيف تم منح فلان كذا وكذا وفلان كذا وكذا، وفضلتُ عدم التسمية تجنباً للجدل والأخذ والرد فيما لا فائدة منه بعد قرون، وكي لا يتم تأويل ما جال في خاطري وأذهلني سماعه، أعود للموضوع، حيث يحكي المتحدث كيف أنهم بتلك العطايا كانوا من أثرى رجال الدولة الإسلامية، وأن تلك الخصوصية كانت ضرورة وواجبة، لم أفهم ولم أستطع التقبل وإقناع نفسي وعقلي بقبول أمر يتجاوز السابقين المضحين المخلصين ويجعل من عمار بن ياسر، ذلك المستضعف النازح على أرض الإسلام، وبلال ذلك العبد الذي لم يتحرر في ذهنية الإقطاع الجاهلي حتى وإن كان صاحب صرخة "أحَدٌ أحَد"، ليبقى حاملاً نفس تلك الصخرة على صدره حتى في دولة الإسلام وفي حضرة شيوخ الكفر الذين لم يُسلموا إلا بعد عقد وبعضهم أكثر، وأصبحت لهم الحظوة والرعاية والعطايا!
وإذا كان مقياس ومعيار "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام" معمولاً بهِ حتى يومنا فلا خير أكثر من جاهلية ابن سلمان ويهودة ابن زايد ورئاسة ابن عفاش، الذين رتبوا وابتزوا لها، ومثلاً سعد الحريري للبنان ويستجلب ابن الشاه لإيران، ويظل بمقياس العوج هذا -مع احترامي واعتذاري لسيد المقاومة المجاهد القائد التاريخي- في الأخير ابن صاحب دكان بسيط وسيد الثورة علم الهدى ابن عالم رباني زاهداً فقيراً، إدارة وتوظيف التناقضات كرقص من سبق على "رؤوس الأفاعي" حد قول القائل فيما مضى.
هناك شيء مفقود وسرد مغلوط وتاريخ مشوه للأسف، تدجين لكل حاضر ليتم الاستسلام لفرضيته الشيطانية. هل نحن أمام سُنن باطلة تتكرر وتنتقص وتبدد وتستلب أقدمية السابقين؟! فلو توقفنا متأملين للبدايات القاسية للشهيد القائد (رضوان الله عليه) واسترجعنا تلك الفترة وقلنا من هم أول المنطلقين في موكب الحرية وأيام الاستبسال في الزمن الصعب ومرحلة التمحيص واختبار زمن البذل للحياة (أقصد أن تكون في طريق مع قلة آمنوا التحفوا الموت والجوع والبرد وقد تجمع للقضاء عليهم وقتلهم العالم المتصهين)، كل هذا الإباء حصاد إيمان حقيقي وقناعة بمشروع وقضية وقائد لم يكن يجد ما يحملهم عليه، تقاسم معهم كِسر الخبز اليابس إن وجد، عظماء لا تسعني مخيلتي لانتقاء كلمات تقدر على وصفهم، شهداء المسيرة القرآنية في الحرب الأولى، أقران رفاقهم في التضحية زمن ما بعد رسول الله أبي ذر الغفاري و... و... و... هل هي سنة واجبة أن يموت أبو ذر منفياً مفقراً؟! هل هذا ديننا؟! مستحيل القبول بما سمعنا وحصل ويحصل، هل منفى أرض الربذة حاضر في كل زمان مكاناً لا بد منه لنفي من لا يقبل السكوت ويرفض التأقلم مع الواقع المفروض؟! هناك شيء! ليأتي اليوم بكل نرجسية من يريد تبرير الانحراف غير المقبول والذي لا يقبلهُ عقل، ويحاول الاستشهاد بما "يزيد الطين بلة" كما يُقال.
تقول له: نحن اليوم في عهد ثورة الـ21 من أيلول وكنف المسيرة القرآنية التي قامت على دماء المستضعفين الصادقين، رِبانيي الفداء، كربلائيي بذل الدماء في بدايات محصت واختبرت معادن الرجال العظماء، لم يكن فيهم ولا بينهم إقطاعيون ولا أبناء ذوات، ولم يكن منهم أبناء ينتمون للرأسمالية، فتية آمنوا بربهم فزادهم هدى، شُعث غُبر غيروا التاريخ وأذهلوا العالم وكسروا قواعد السقائف وحسابات المواجهة، مع أن تطلعات وثقة الشعب اليوم أن الثورة ستغير التغيير الكلي في كل المجالات، لا أن يكون هناك تحديث وإضافة للطبقة البرجوازية واعتماد وتسكين للنخب الجديدة وتحديث القائمة للطبقة الحاكمة بمستجدي المرحلة مواكبة للحاصل، ليصبح ابن هند بعد ذلك حاكماً على العرش ويتكرر الواقع نفسه على قاعدة أن "التاريخ يعيد نفسه"!
واليوم تسأل فلاناً: كيف هكذا؟! ماذا يحصل؟! يقول لك: ضرورة ومرحلة تتطلب مثل هؤلاء. عجيب! وتذكرت بيتاً من الشعر للأستاذ والمفكر والأديب المناضل الحر صلاح الدكاك في قصيدة من قصائده يقول:
"مازال صدر بلال يحمل صخرةً"
إلى آخر القصيدة.
أعود ليستوقفني بعد كل ذلك الحديث وتناقضات الأفكار وضجيج التساؤلات في رأسي، عهد الإمام علي لمالك الأشتر، الذي ورد فيه ما ينفي فرضية الاسترضاء والعطاء والاستثناء الباطل الذي يُضيع عدالة الإسلام وينسف حقوق البسطاء العظماء ويُنزل من لا يستحق على حساب من يستحق، ويزيد الفقير فقراً ويعطي للإقطاع العطايا طلباً لمودتهم التي لن تكون أو لتجنب شرهم الذي لا بد منه يوماً ما، وعلى حساب دنيوي خبيث. عهد الإمام لمالك يقطع الشك باليقين، وأن ما يتم بعيد كل البعد عن دين الله وثوابت المشروع الحق، وينافي تماماً توجهات ونهج سيد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي (يحفظه الله).
* نقلا عن : لا ميديا