كنت ولا أزال أتساءل؛ كيف استطاع المنتمون إلى دين الله طمعاً وخوفاً وعصبيةً الوصول إلى سدة الحكم، وفرض سيطرتهم على كل شيء، وتعزيز قوتهم ونفوذهم بجهد وعرق ودماء وجماجم ومقدرات الأمة كلها، في الوقت الذي يزداد فيه الناس فقراً وجهلاً، ويفتك فيهم الظلم والبغي، ويصبح كل منكر أو فساد مقبولاً لدى معظمهم، وإذا لم يقبلوه فإنهم لا يجرؤون على رفضه وإنكاره، وفضح ومواجهة مرتكبيه، وإنما يكتفون بإلقاء النظرة المتحسرة، وإطلاق التنهيدات والتأوهات الموحية بعدم رضاهم عما يجري، لكنهم مستمرون بمباركته والتعاطي معه والتعزيز لمواقعه بأفعالهم وكلماتهم ومواقفهم؟!
ولماذا قبل السواد الأعظم من أبناء الأمة الإسلامية بأولئك حكاماً وولاة وقادة عليهم، وهم يعلمون ظاهرهم وباطنهم وماضيهم وحاضرهم؟ وما الذي منعهم من التحرك لاجتثاثهم، وخصوصاً وهم يرون عرى الإسلام الذي تلقوه عن الله ورسوله، وعاشوه واقعاً في حركة رسول الله صلوات الله عليه وآله؛ تُنقض عروةً عروةً، ويشاهدون حملته الحقيقيين، ومتلقيه عن وعي وقناعة، ومجسديه بإخلاص ويقين؛ يقتلون، أو يقصون، ويهمشون، أو يُخرجون وينفون من الأرض؟
نعم، لقد حدث كل هذا وأكثر بعد التحاق الصادق الأمين نبي الرحمة عليه وآله صلوات الله وسلامه، بالرفيق الأعلى، وذاق من بعده قرناء الكتاب وأشياعهم الأمرين على يد الأمة التي صارت سيفاً مسلطاً على رقاب أهل الحق والدين باسم الحق والدين، وأهل الباطل من منافقين ووصوليين وعباد جاه ومال ومنصب، ومتعصبين للقبيلة هم حماة الدين، وخلفاء الله ورسوله، وأمراء المؤمنين، ولم يكن هذا الانقلاب الكلي حصيلةَ أعمال وأنشطة وجهود من قبل ذوي الانتماء الزائف، استغرق الوصول إلى نتائجها المرجوة قرنا أو حتى نصف قرن، وإنما كانت النوايا المبيتة سلفاً، والمسنودة بالكيانات والخلايا والرموز والوجاهات وأصحاب رأس المال، والمجتمعين منذ البدء على هدف ومشروع واحد؛ كفيلةً بتغيير وقلب مفاهيم الإسلام رأساً على عقب، بمجرد أنْ فاضت روح رسول الله إلى بارئها، نعم تم كل شيء بوقت قياسي، ورسول الله لم يدفن بعد.
إن الانقلاب على الحق فكراً وبرنامجاً عملياً قاده عبر التاريخ رجالٌ محسوبون عليه، حريصون جداً على الاحتفاظ بقشوره، والتبني لطقوسه، والتظاهر بالإخلاص له، والتغني بشعاراته ومفاهيمه وقيمه ومبادئه، دون أن تنعكس على حركتهم وسلوكهم في الواقع، كما يسعون دائماً إلى إسكات وإقصاء وتغييب ومحو كل مَن يرتبط بالمشروع والقادة الرساليين ارتباطاً وجودياً ووجدانياً، إلى الحد الذي يجعلهم يتنفسونهما في حركاتهم وسكناتهم، ويحكمونهما في الفعل والقول والنظرة والسلوك والموقف، ثم هم إلى جانب هذا العمل الهدام؛ يقومون باستقدام متكلمين وعلماء ودعاة وخطباء وإعلاميين مهمتهم الأساس هي إلهاء المجتمع عن التفكير بواقعه، وصرفه عما يجب عليه فعله، إلى الغيبيات والأقاصيص والأخبار والأشعار التي لا يزداد من خلالها إلا ضياعاً وغفلة، وجعل علاقة المجتمع هذا بدينه ورسوله وكتابه علاقة روحية، لا تبني حساً اجتماعياً، ولا تصنع وتوجد وعياً ثورياً، وإذا ما استطاع فردٌ أو مجموعة الخروج من ذلك القمقم، أو بقي أحدٌ بين الناس لايزال يتحرك بحركة الرسالة ويحمل روحها ومشروعها؛ تم تصنيفه أو تصنيفهم من دعاة الفتنة، والمأزومين المخربين الساعين لإفساد الحياة، وزعزعة أركان دولة الإسلام، وشق عصا الطاعة بين المسلمين، ثم يقتلون أو ينفون.
وهكذا يتم استبدال زروع الرسالة والهدى بمنابت الشوك والشر، فتفسد الأرض، ويموت الإنسان، وإن علامة موته الأولى هي تخليه عن أبي ذر، وانجذابه إلى مجالس وثقافة كعب الأحبار.
* نقلا عن : لا ميديا