عندما ترى مشهداً تلفزياً أو مقطع فديو، يتضمن شيئا من ذكريات الانبعاث الثوري، ذكريات اليقظة والتعافي، ذكريات الأماني والأحلام التي لا تُحد بحدود، ذكريات التبشير بالخلاص والانعتاق من كل من منظومات القهر والتبعية والاستلاب، ذكريات الإحساس الحقيقي ولأول مرة بشعبية الشعب؛ تخنقك العبرة، وتتولى العينان التعبير عما يختلج في النفس، في الوقت الذي لا يقوى اللسان على النطق ولو بحرفٍ واحد! وأنّى للسان أنْ ينطق، والإحساس بالصدمة لهول ما نراه ونعيشه ونلمسه يكاد أنْ يذهب بالعقول، ويوقف القلوب، ويجمد الدماءَ في العروق؟!
لقد بتنا نهرب من تذكر تلك الأيام، ونتحاشى كل ما من شأنه أنْ يدفعنا لاعتبارها جزءاً من تركيبتنا النفسية، مع أنها في الحقيقة تمثل كينونتنا الوجدانية، والأرضية التي قام عليها وجودنا، والفضاء والمتنفس الذي سطرنا من خلاله مَن نحن؟ وماذا نريد؟ وما الذي نحمله للناس من مشروع بديل لإخراجهم مما هم فيه من ضياع وغربة وشقاء وضعف وفقر وقلة حيلة؟
يا الله كم كنا صادقين مع الناس ومع أنفسنا! كنا في صف المستضعفين من عامة الناس، كنا نتعامل مع الإنسان كإنسان بعيداً عن الاعتبارات والقيود والضوابط المناطقية المقيتة، كانت قبيلتنا الوحيدة هي الشعب، وكان المعدمون والمغمورون هم عدتنا وعديدنا، وكان الكل في حالة ذوبان بالثورة والمشروع إلى الحد الذي تلاشت فيه الأنا، وحضر الكل في الميادين والساحات لتظهير النحن، فأضحى الكل جسداً واحداً.
أما اليوم فمعظمنا بات يحسب حساب المصلحة، ولا يرى قيمة لأحد إلا بمقدار صلته بمراكز النفوذ القبلية والمالية، والتي هي اليوم في حالة تزاوج وتلاقح مع السلطة السياسية لإنتاج الماضي بكل ما فيه من عاهات وأمراض وكوارث كانت هي السبب في تحمس الشعب للثورة وانخراطه بها، وبذله المهج في الدفاع عنها.
إننا اليوم إذا تحركنا لإنصاف مظلوم من ظالمه؛ كان همنا الوحيد كيف نسترضي الظالم، ونتلطف له حتى يبادر بإنصاف المظلوم، ورد جزء من اعتباره، ففي قاموسنا الجديد؛ لا ضير إن وجد مظلوم، ولا ضرر في استمرار ظالمه بالتنكيل به، حتى وإن أصبح شبه ميت، لأن الظالم قد يكون من الرؤوس الكبيرة، وعالي الجناب، الذين نخشى في ما لو أغضبناهم شقَ الصف الداخلي!
فهل هؤلاء نحن؟ لا أدري.
* نقلا عن : لا ميديا