لعقود كانت اللعبة الأمريكية “المصارعة الحرة الترفيهية” تعاصر جميع مراحل السياسة الأمريكية، ووقفت في خدمتها، خصوصاً أن جمهورها المتعطش لها مجموعة ممن يطلق عليهم العُصابيون المتوترون سريعو الانسجام مع ما يأتي منها.
عندما بدأت أمريكا العداء مع إيران في سبعينيات القرن الماضي جاءت بمصارع كان يطلق عليه المشجعون الإيراني خلال فترة الثمانينيات.
فـي قريتنا بمديرية الشاهل، كان الجميع يقفون مع ثورة الإمام الخميني، ومع مشاهدتهم لمباريات المصارعة التي تأتي عبر القناة السعودية التي يصل بثها إليها، كانوا يعلمون أن تلك المصارعة تمثيلية بالكامل، وكانوا يشجعون “دينو برافو، وتوني أطلس، وأريبا” وفجأة بدأت جولات المصارعة بين هؤلاء الأبطال “المحبوبين” الذين يمثلون أمريكا، مع المصارع الإيراني وأهل القرية يتمنون هزيمته.
في الواقع يشجعون إيران، وفي المصارعة يشجعون أمريكا، وقليلاً قليلاً بدأ التعصب يفعل فعله، حتى أصبح هناك من يشجع أمريكا في المصارعة وفي الواقع ويهاجم إيران.. ويبرر ذلك بالحرب العراقية الإيرانية.
في التسعينيات، ومع حرب الخليج (العدوان الأمريكي على العراق، بطلب من دول الخليج، وتحالف 33 دولة على العراق) جاؤوا بمصارع “عراقي” يدخل ومعه علم العراق، وفي فورة وقوف الشعب اليمني مع العراق ضد العدوان الأمريكي، كانوا يشجعون في المصارعة البطل الأمريكي.
حتى انسحب ذلك لدى البعض مع الأيام ليشجعوا أمريكا في الحرب ضد العراق، حيث جعلت إدارة المصارعة العراقي يفوز على الكثير من نجوم المصارعة، وبعد كل فوز يقوم بحركات غريبة مزعجة ومنفرة، وحتى فوزه يجعلونه بالغش ويضرب الحكم.. ويستخدم أدوات ممنوعة بحسب المتعارف في تلك المصارعة، وفي كل مباراة استعراضية يقدمونها يزداد نفور جمهور مشجعي المصارعة منه، وبعد أن كان هناك جمهور منقسم على تشجيع المصارع العراقي في البداية حتى أصبح الجمهور على استعداد للمباراة المنتظرة بين من يعتبرونه البطل الذي يدخل حاملاً العلم الأمريكي “هالك هوجن” والمصارع العراقي الذي تعرض لهزيمة مذلة، وكل الجمهور يهتف بحياة هوجن وسعداء بالنتيجة.
وهكذا مع كل عدو لأمريكا، أو مع كل حليف جديد لأمريكا يتم إبراز مصارع يتم التعامل
معه بما يخدم التوجه الأمريكي.. ففي الثمانينيات كان هناك مصارع ياباني مكروه جداً، استبدلوه بمصارع ياباني جعلوه محبوباً مؤخراً وفقاً للتوجه الأمريكي الجديد.
وحتى روسيا كان لها نصيب من المصارعين وفق السياسة، فكان المصارع الروسي مكروها جداً.. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي جاؤوا بمصارع روسي “كيوت” وفق المواصفات الأمريكية.. وبالتأكيد سيكون هناك مصارع روسي جديد مكروه ويأتون بمصارع أوكراني ويجعلونه المحبوب لدى جمهور المصارعة.
ومؤخراً، جاءت المصارعة الأمريكية بمصارعين جدد، بعد جولة تجارب واختبار أداء، من السعودية، وقريباً هناك مصارعون إماراتيون وقطريون.. ولا أستبعد أن يستمروا في أدائهم المكرر ذاته ويأتوا بمصارع “حوثي”.
وشيئاً فشيئا ستجد المشجعين العصابيين يسيرون وفق الخطوات عينها التي تسير عليها هذه اللعبة التمثيلية لتجد أحدهم يشجع المصارع الأمريكي الذي سيوقف جولات الانتصارات للمصارع “الحوثي” بذات الأداء.
عملية غسل الأدمغة لا تتوقف عند لعبة المصارعة الترفيهية، بل هي واحدة من ضمن منظومة كاملة في “المسلسلات الأمريكية، وألعاب الفيديو، ومسلسلات الأطفال، وأفلام مارفل، والأغاني الغربية الرائجة التي تحمل مضامين هدامة”، ومن يتحدث عن هذا النوع من الحرب وغسل الأدمغة وخطرها.. فوراً ستجد من يتهمه بالتخلف.. مصحوبة بعبارات السخرية: خلوا الناس يفتهنوا من حقكم الجنان.. جا يقلي المصارعة والمسلسلات والبلايستيشن، هولا مجانين.
الأمر لا ينطبق علينا فقط، فأمريكا بهذه الأدوات غزت العالم، ويكفي أن تشاهد اليابان التي قصفتها أمريكا بالقنبلة الذرية وقتلت الآلاف منهم، وهم يقفون اليوم باستماتة مع الأمريكان ولا يستطيعون الخروج عن قراراتهم في أغلب الحالات.
شيء عجيب يحدث بالفعل، كأنه سحر..
بل لقد جعلت أمريكا من العراقيين ألعوبة بيدها خلال سنوات قليلة، وصاروا يرون أن حريتهم في بقاء القواعد الأمريكية التي قتلت عشرات الآلاف منهم، وانتهكت حرماتهم، وشردت الملايين من وطنهم، واحتلت بلدهم ونهبت آثاره وذهبه ونفطه وخيراته، بل أصبح الهجوم على القواعد الأمريكية والمطالبة بخروجها يجعل الكثير منهم يخرجون للتظاهر بمبرر الفساد ونهب الثروات، وانقلبت الحقائق.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد.. فتجد “الانتقالي” الجنوبي يقف في ذات الصف مع من ظلوا يشكون منهم باعتبارهم عصابة “7/7” ويعملون في خدمتهم بمنتهى التفاني، ويحاربون في الحد الجنوبي مع الرجعية السعودية، ويشتغلون في مواخير الإمارات، بل ويقولون إن الاحتلال البريطاني كان تحالفاً وتكاملاً مع أبناء الجنوب.
والأخطر من كل ذلك كيف أصبح الاحتلال “الإسرائيلي” حليفاً خلال أعوام، من المسلسلات والأفلام المنتقاة للكبار والصغار على قنوات “mbc” جميعها تحتوي على شخصيات “إسرائيلية” كوميدية وأبطال أكشن قربتهم لقلوب الجيل الجديد، وجعلت الأعداء يحملون أسماء وسحنات المسلمين.
كأن الغرب قد فك شيفرة التحكم في الأدمغة بهذه الأدوات التي يسيطرون بها على الجميع ويغيرون مواقفهم ويبدلونها بمنتهى الأريحية.
الهدنة جيدة، والسلام مطلوب، لكن علينا توقع الكثير من المفاهيم المغلوطة التي ستنتشر كالهشيم في النار، وتوقع الاصطدام مع أبناء البلد (وأقصد هنا من كانوا ضمن الحاضنة الشعبية والواقفين ضد العدوان) بعد أن كانت العمليات محصورة مع قوى العدوان ومرتزقتهم.
بالذات إذا وجدنا من الممارسات والتصرفات غير المسؤولة المستمرة والملموسة بمبرر استكمال مرحلة “التمكين”، التي ستساعد البعض على الاقتناع التام بأن العدو أرحم ممن وقفوا معهم ويشاركونهم المبادئ والدين والحلم نفسه.
والله من وراء القصد.
* نقلا عن : لا ميديا