لا يجد الناظر إلى حجم الحضور الشعبي في مختلف ميادين وساحات الاحتفاء بذكرى المولد النبوي الشريف، وما صاحب هذا الحضور الملاييني من أنشطة وفعاليات انطلقت من وحي هذه المناسبة، بالإضافة إلى مستوى الترابط القوي والانسجام التام بين القائد أبي جبريل وبين شعبه، ومدى ما تفيض به قلوب الجماهير من محبة وولاء لقائدها الذي جعل قلبه ساحةً احتوت كل الساحات، فغمرها بذات المشاعر التي تحملها تجاهه، وبادلها ذات الإحساس الذي تحسه ناحيته سوى تفسيرٍ واحدٍ هو: أننا اليوم نعيش اللحظة الزمنية التي سنشهد من خلالها ولادةً جديدةً لمجتمع الأنصار المحمدي، حامي حمى الدين، وحامل لواء الرسالة وروحيتها، وبالتالي فلا يمكن لأي قوةٍ أن تحول بين هذا المجتمع وبين مساعيه الرامية لإيجاد الأمة القوية الموحدة، المعتبرة لكل هذا العالم ساحةَ عملها، والنطاق الذي تحس فيه بمسؤوليتها تجاهه، والأفق الذي تطلق فيه العنان لفكرها المجسد لمبدأ الرحمة للعالمين، والمعني بإخراج الناس كافة من نفق الظلمات إلى رحاب النور.
نعم فالزمن الذي ابتدأ بمحمد صلى الله عليه وآله، هو اليوم ذاته الذي يعود كي يختتم مسيرة البشرية به وبأنصاره، بعد أن عاش العالم لفترات طويلة مع مختلف الأفكار والفلسفات، وجرب جميع النظم والقوانين التي نتجت عن مختلف النظريات، فما زاده ذلك إلا شقاء وبؤسا، ولم يجنِ سوى المزيد من الضلال والخيبة والخسران والتفكك والخزي والفقر والخراب والذل والمرض والعجز والفساد، وبات لزاماً عليه أن يعود إلى رحاب الله، ويستجيب لنداء رسوله، ويلزم السير على صراطه المستقيم، فيستعيد بذلك كرامته، ويبني وفق ما يهدي إليه كتاب ربه نفسه ومجتمعه وسائر شؤون حياته.
وهنا قد يقول قائل: لقد كان الإسلام موجوداً في جميع مراحل الحياة، وعلى امتداد قرون، فلماذا لم يستطع فعل شيء ولاسيما خلال الأربعة القرون الماضية؟
والجواب: إن الإسلام الذي شهد تراجع المسلمين العلمي والأخلاقي، وعاصر سقوطهم الحضاري لم يكن هو إسلام محمد عليه وعلى آله أزكى الصلاة وأتم التسليم، وإنما كان عبارة عن جسد خاوٍ بلا روح، ليس في طقوسه أو تعاليمه ما يرشدك إلى معرفة الرسول، أو يعطيك تصورا صحيحا عن طبيعة الرسالة ومضامينها، إذ بدا لنا أن هناك ثقافة قدمت الرسول بخلاف حقيقته، وجرمت كل المساعي التي تستهدف تركيز الإيمان به، وحاربت كل المظاهر الموحية بتعظيمه ومحبته ونصرته، وعمدت لفصل الأمة عن النور الذي جاء به، فكان كل ما وقع على المسلمين هو النتاج الطبيعي لهذه الثقافة التي ضربتنا من الداخل قبل أن يعمل أعداؤنا على ضربنا من الخارج.
ولكننا اليوم نشهد وجود ثقافة أخرى، نرى من خلالها عظمة هذا الدين، ونلمس في سياق حركة الزمن آثارها الطيبة التي ملأت النفوس بمحبة نبي الرحمة، وعززت الإيمان به في بنيتها، ووضحت لها مستوى عظمته، وعلو مقامه، وفتحت لها سبل تحقيق الاهتداء به، والاقتفاء لأثره، والاتباع للنور الذي أُنزل إليه، الأمر الذي سيجعل فلاحها حقيقةً ملموسة في واقعها، كنتيجة طبيعية لما تمثلته في حركتها والتزاماتها على كل صعيد.
* نقلا عن : لا ميديا