لا أزال منذ فترةٍ ليست بالقصيرة أفكر في حال من يبدؤون مشوارهم الفكري كتابةً ونطقاً حاملين للقضايا العادلة، ومتبنين للمواقف المحقة، ومنحازين إلى جانب المظلومين والمستضعفين والمقهورين، سواءً في بلدانهم، أو في البلدان الأخرى، فيبقون على ذلك مدةً من الزمن، تبرز خلالها أسماؤهم، كشخصيات لها مكانتها في نفوس القراء والمتابعين، ثم تأتي مرحلة ما وإذا بك تفاجأ بحجم التغير الرهيب الذي طرأ على حياتهم ومواقفهم، وطبيعة ما يكتبون، لدرجة أنك لا تصدق أن هذا الشخص أو ذاك هو فلان الذي كنت تنتظر تحقيقاته وتقاريره على أحر من الجمر، وتحتفي بكل ما يكتب، فما الذي يجعل الكاتب أو الإعلامي أو المثقف أو الأديب قابلاً لأنْ يخلع جلده، ليلبس جلداً آخر، وراضياً بتصيير كل ما سبق وحازه من نبل وشجاعة وشرف وإقدام ورفعة تحت قدميه؟ وبأي وجهٍ سيقابل كل مَن عرفوه حينما كان يطل من منصات العزة والكرامة، صحفاً ومواقع وإذاعات وقنوات، بعد أن أصبح بطلَ كل مواقع وصحف ومحطات الخيانة والعمالة والارتزاق؟ وبعد أن باع نفسه وقضيته وأمته ومجتمعه وقيمه ومبادئه، وفضل أن يكون أداةً بيد العدو، لقتل شعبه، وعاملا مساعدا على تزييف الوعي العام، وتزوير الحقائق، وتبييض صفحة القتلة والمجرمين.
قد يبرر السطحيون والسذج لمثل هؤلاء الساقطين من أعلى قمم العزة السامقة، إلى حضيض المذلة والهوان والوضاعة بالقول: ربما وجدوا مضايقات مورست عليهم من قبل شخصيات معينة، أو تعرضوا لظلم أحدٍ ما، في هذه المؤسسة أو تلك، أو لم يجدوا من يمكنهم من الفرصة التي كانوا يحلمون بالحصول عليها، وربما بسبب ظروف المعيشة، وكثرة ضغوط الحياة اليومية دفعتهم لهكذا توجه، بحثاً عن مصدرٍ يؤمّن لهم حياةً أفضل. وكلها تبريرات واهية لا معنى لها، إذ المسألة مسألة انتماء لدين، والتزام بقيم وأخلاقيات ومبادئ، لا يمكن لأي ممارسات خاطئة، أو مظلوميات وتعسفات قاسية، أو معاناة وجوع، وانعدام فرصة في الحياة، أن تجبر كل ذي نفس سوية على التخلي عنها، مقابل التزامه بكل ما هو واقعٌ موقع النقيض والضد منها، ثم متى كان الجوع، أو حتى الموت داخلاً في حسابات النفوس الأبية، والأنوف الحمية، حتى يرضخوا إزاءه لكل ما من شأنه أن يبقيهم في المذلة والعار طوال حياتهم، بل حتى بعد مماتهم إذ سيحملون ذويهم عار ما اقترفوه بحق الدين والمجتمع، وقضايا الحق والعدل؟
أما أسوأ هؤلاء الساقطين حالاً، وأشدهم خسارةً، فهم: أولئك الشباب، الذين ظنوا المجد والرفعة والشهرة بيد المنافقين والعملاء، فهرعوا إليهم بكل قوة، ولم يدركوا أنهم بذلك، حكموا على أقلامهم وأفكارهم ومواهبهم وسمعتهم وكل وجودهم بالموت والفناء، قبل أن يخطوا خطوةً واحدةً إلى الأمام، تلك هي قناعتي، لذلك أجدني كلما وجدت مقالاً لأحد الشباب المحسوبين على الشعب الحر والصامد، في مواقع وصفحات المرتزقة أقوم بكتابة رسالة تعزية لنفسي، بوفاته، معلناً الدخول في فترة حداد، حزناً على فقيد الشرف والقضية والقيمة.
* نقلا عن : لا ميديا