قال بعض المفكرين والباحثين الإسلاميين إن الفقهاء قديماً ساهموا إلى حدٍّ كبير في حصر المفاهيم القرآنية ذات المدلولات الواسعة، وأفرغوها من محتواها، وذلك كجزء من مهمتهم التي كلفتهم بها أنظمة الجور، وسلطات المُلك العضوض، التي كانوا مرتبطين بها، وعاملاً مساعداً في تثبيت قواعدها وأركانها، والجهاز المعني برسم سياساتها تجاه شعوبها، وتطويع العامة لها، وإزالة كل ما يحول دون التسليم لأمرها بينهم، ويمنع السير معها حيث تسير أو تختار.
وأما أبرز تلك المفاهيم التي تعرضت للاعتداء من قبل فقهاء السلطان فهو مفهوم «الشهادة»، الذي تم حصره على الذين يقدمون شهاداتهم في فض المنازعات، أو كتابة العقود والملكيات، أو القتل في سبيل الله، أو في إقامة الحدود المختلفة التي أوجبها الشارع للحفاظ على سلامة المجتمع وأمنه وطهارته النفسية والجسدية والفكرية، بينما نجد القرآن الكريم يقدم الشهادة بمفهومها العام والشامل، لكي تصبح هي العنوان الذي يلتزمه المسلم في كل جانب من جوانب حياته، فيكون شاهداً بالحق على نفسه وعلى الآخرين لله تعالى، من أجل إقامة العدل، وإماتة الظلم، والدعوة إلى كل ما فيه الخير والعزة والسمو والاطمئنان والصلاح والتقدم والرخاء للجميع، والحث على كل ما من شأنه أن يبني الواقع على أساس التوجه للأمر، مع الالتزام بكل ما هو معروفٌ وحق، واجتناب كل ما يدخل ضمن المنكرات والباطل بقليلٍ أو كثير.
من هنا يتبين أن الشهيد هو ذلك الشخص الذي يختار السير في طريق الحق، في مسيرته الحياتية كلها، فلا مكان عنده للمجاملات على حساب العقيدة والإيمان، ولا مجال لديه للتنازل عن شيء من الحق والدين، حتى وإن كانت حياته هي الثمن المتوجب عليه دفعه من أجل نيل وسام التسمية بالشهيد، وبلوغ مرتبة الشهادة عند الله وعند خلقه. وما القتل في سبيل الله سبحانه وتعالى إلا مرحلة الاختبار الأخير، والتي يقف المؤمن حيالها بين خيارين: فإما أن يختار الوقوف مع مبادئه الحقة وقضاياه العادلة، متنازلاً عن وجوده الزائف والمؤقت، فيُكتبُ له ولها الخلود والبقاء، متوجاً كل مراحله بالنجاح والفوز، وإما أن يختار الوجود الزائف والمؤقت، وينسلخ عن مبادئه وقضاياه، فيُكتب له الخزي والفناء، وتذهب كل آثاره أدراج الرياح.
وعليه، إذا أردنا الاستفادة من ذكرى الشهداء فلا بد من التوجه لدراستهم منذ أول الخطوات التي بدؤوا من خلالها السير على طريق الشهادة، لا أن نكتفي بمجرد الإشارة إلى لحظة صعود أرواحهم إلى عالم الكمال والملكوت، فتلك اللحظة ما هي إلا خلاصة لكتاب حياةٍ يحوي بين دفتيه مئات المباحث والفصول التي يعد الانصراف عنها أو تجاوزها من الخيانة للشهداء والتفريط بدمائهم وقضاياهم ومبادئهم وموقفهم.
* نقلا عن : لا ميديا