إن الحياة التي يحظى بها الشهداء جزاء بذلهم وتضحيتهم من أجل ربهم هي: حياة حقيقية يعيشونها بكل مشاعرهم، بل إنها فوق مستوى التصورات العقلية، والنزعات التخيلية، كيف لا، والمصدر الذي شمل واحتوى جانب الإخبار عن هذه الحياة هو القرآن الكريم، الذي هو من عند الله، وهو الحق كله، والصدق بعموم مفاهيمه ومعانيه، فليس فيه شيء يجانب الحقيقة، أو يشتمل على الزيف، أو يداني الشك والريبة؟! فالله تبارك وتعالى بعد أن نهانا عن عداد المقتولين في سبيل الله من الأموات، وأكد حقيقة هذه الحياة من خلال بيان مظاهرها، إذ قال: «بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون»؛ فهي -إذن- حياة حقيقية، وفي مقام عظيم، ومرتبة عالية، وتكريم كبير من الله سبحانه، وفي ضيافة ملك السماوات والأرض، الحي القيوم. «عند ربهم» عبارة تفيد طبيعة ما وصلوا إليه من مكانة عند ربهم. عبارة تفوق كل وصف، فهم الذين خلعوا في الدنيا كل مظاهر المحاباة، والتقرب من غير الله تعالى، وعاشوا القرب منه، في مقام تقديم مضامين عبوديتهم له، وأخلصوا نياتهم لربهم، فشرفت مقاصدهم، وسمت نفوسهم، وخلصت لله أعمالهم.
لقد عاشوا الثقة بالله والإحساس بمعيته والشعور بالقرب منه، وهم يرون رأي العين قوى الشر والكفر تتحرك لمحاربتهم بكل معاني الترف، ومظاهر المادية، وتمتلك كل مقومات الغلبة. وفي المقابل فهم ليس لديهم أدنى اكتراث بهؤلاء الكفار ولا يأبهون لهم ولا يقيمون وزناً لعدتهم وعديدهم، وذلك يرجع لصدق وحقيقة مستوى معرفتهم بالله، معرفة حقيقية جعلتهم يعيشون ما يقول عنه الإمام علي عليه السلام: «عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم»، واقعا ملموسا. وهنالك من رجالات الإيمان في مسيرتنا ونجوم الجهاد من شهدائنا من كان يعبر عن هذه الثقة بالله واستشعار معيته وإدراك عظمته والثقة واليقين بما عنده بكلمات لشدتها {تكاد السماوات يتفطرن وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً}، نظراً لاشتمالها كل مقتضيات الإيمان، وترجمتها لكل معاني إدراك وحدانية الله، واستيعابها العملي وتصديقها القلبي لكل ما احتواه القرآن عن ثبات وعزم وصبر الأنبياء، وخلده التاريخ عبر العصور من مدى استعداد أعلام الهدى للشهادة واستبشارهم بها، وهذا بدوره يلفت انتباهنا إلى:
1 - العمل على تعزيز معرفة الله بشكل كبير وجهد مستمر، مصحوب بجهد متواصل يحوي مستوى قدرتنا على تفهم هذا الموضوع باعتباره أصل أصول الدين، وهو واسع وكبير إلى حد أن وجدناه هو الموضوع الذي حظي بالاهتمام الكبير من قبل الشهيد القائد رضوان الله عليه. وهذه السعة تتيح لنا إمكانية تقديم جانب معرفة الله بأساليب وطرق ووسائل متعددة ومتنوعة تقوم على تسخير كل وسائط الدخول إلى حيز تشكيل وعي النفس البشرية، وإذا تم لنا ذلك فقد تم لنا كل شيء.
2 - الحرص دائماً في جانب الشد إلى الله سبحانه على تقديمه بصورة عملية ذات بعد حركي، وذلك بالعودة إلى ما خلده القرآن الكريم من سير وقصص الأنبياء وأتباعهم، وكذلك ربطه بما نجده في تاريخ أهل البيت وتضحياتهم، ليتم للناس إلى جانب الوعي العقائدي والفهم النظري نماذج تمثل مدرسة تربوية في الترجمة العملية، وهذا بدوره يمثل عاملا من عوامل تقوية وتثبيت قوة استمرارية الحق بوجه كل باطل.
4 - الحرص في كل ما نقدمه للناس على تشريبه وتضمينه لقيم الإيمان، والتخلص بشكل كلي من تبعات الثقافة المدمرة والمغلوطة التي قسمت جوانب الحياة إلى ديني وغير ديني؛ لأن الدين هو لكل جانب من جوانب الحياة، بل هو الحياة، وأي شيء ينفصل عنه فقد حكم على نفسه بالموت والعدم، ومن التزمه وصار وفقه وتحرك على أساسه ضمن لنفسه الخلود والبقاء، حتى ولو اقتضت المسؤولية لديه تجاه دينه أن يقدم حياته، فإن ذلك هو ميدان غلبة الموت، لأنه ليس سوى فاصل قصير بين مرحلتين، أو بعبارة أدق إن الموت بالنسبة للشهداء هو بمثابة جسر عبور من حياة مهددة بالفناء إلى حياة تضج بمظاهر الخلود.
٤- إن كل ما نقدمه في سبيل الله ليس فيه خسارة، بل هو الفوز بكل معانيه وسياقاته. وعليه يجب تظهير الفروق بين الحياتين بشكل دائم، حتى تصبح الشهادة في سبيل الله في خانة المسلمات المعمول بها في الوعي الجمعي، ممارسةً وسلوكاً وفكراً وعملاً. وهكذا تصبح الشهادة حياة في آثارها التي تنعكس على الناس الذين لم يلحقوا بالشهداء، إذ أوصل دم الشهادة الحياة إلى كل جسد المجتمع، وكسر كل قيود الدعة، وبدد كل عوامل الهوان، مكسباً الحياة قيمة، وموفراً للذين لا يزالون في طريق الشهداء ضمانات من الله «أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».
* نقلا عن : لا ميديا