إن بيننا وبينكم بُعد المشرقَين، حتى وإن رفعنا صوركم، واكتتبنا أسماءكم، وتغنينا بمفاخركم وبطولاتكم، وزينا رياضكم. أدري أنكم تروننا وتسمعوننا، ولستم بحاجة إلى قاصرٍ ومقصرٍ مثلي كي يطلعكم على ما آل إليه الوضع بعدكم؛ ولكنني لم أجد مَن هو جديرٌ بسماع شكواي من الخلائق سواكم، فأنتم الكمال الإنساني إيماناً وخُلُقاً، جهاداً ووعياً واستقامةً وصبراً، وعزيمةً واستعداداً للتضحية في سبيل الله، بكم عُرِفَ المجد، وإليكم يُعزى الإقدام والشرف والإحسان والتواضع والفخر، وفيكم تتجلى الشجاعة والبطولة بأبهى صورها وأوضح معانيها.
سادتي، لقد بُلينا بعدكم بألف ألف الأشعث بن قيس، وألف ألف «أبو موسى»، وألف ألف ابن النابغة، إلى جانب نواة تسعى بكل ما لديها من قوةٍ لاستعادة المجتمع الخاذل لأئمة الحق، وأعلام الهدى عبر العصور. كل هؤلاء يسيرون معاً بنا نحو الهاوية، ويعملون مجتمعين كل ما من شأنه إبقاؤنا نراوح مكاننا، بين عظم المأساة الممتدة من محراب مسجد الكوفة، مروراً بالكناسة وكربلاء حتى جرف سلمان، وقسوة الألم، وشدة وحجم المصيبة الناجمين عن عاقبة التقصير والتواني في نصرة الحق، والخذلان لحملة الدين ومعدن الرسالة.
سادتي، من أين أبدأ؟! وأين أقف؟! أمن الذين يقومون برفع القرآن كما حصل يوم صفين، ويكتفون بإطلاق الشعارات والخطب الرنانة في المحافل والندوات، وعبر الشاشات، ولسان حالهم كما قال الزميل علي عطروس يوماً: يهتفون: الله أكبر، وهم يسيرون خلف اللات والعزى، ويصرخون أمام الشاشات بالموت لأمريكا، وهم يقولون: أعلُ هبل؟! أم من مطلقي المشاريع الوهمية الموجودين في أكثر من مكان، والعاملين في أكثر من مؤسسة، المرتدين ثوب المنقذ على أجساد وقلوب لا تضمر سوى الهلاك، والملوحين برايات البناء، بأيدٍ تخفي خلف ظهور أصحابها معاول الهدم والتخريب لكل شيء؟!
إن شوارعنا اليوم باتت تضيق ذرعاً بماسحي السيارات، والباعة المتجولين، وأصحاب العربيات؛ لأن قلوب وعيون المسؤولين لا تطيق وجود هؤلاء مرفوعي الرؤوس، يبحثون عن أرزاقهم بشموخ، ويأكلون من كدهم وعرقهم؛ وإنما يريدون للجميع أن يتخذوا من الشحاذة والتسول مهنةً وصنعة يقتاتون من خلالها، ففلان صادروا عربيته وبضاعته بحجة الازدحام المروري، وآخر أخذوا خزان المياه الذي لطالما كان يحلم بشرائه كي يعينه على تحصيل رزقه وتأمين قوت أطفاله، وذلك من خلال غسل السيارات، وما إن تحسن حاله، وبات يعيش الستر مع أسرته، قامت الجهات المعنية بمصادرة خزانه، الذي لن يعيدوه إليه إلا بدفع غرامة مالية، وكتابة تعهد خطي بألا يعود إلى ذلك المكان الذي كان يعمل فيه مجدداً! هذا فقط مثال بسيط من الواقع المليء بالمرضى وعديمي الذمة والخلق، وقليلي الدين، وهناك الكثير الكثير من الأمثلة التي تقترب مما ذكرناه أعلاه، إن لم تكن أشد بشاعة منه، وأدمى لقلوب الأحرار؛ فمثلاً: إذا قمت كصحفي أو موظف بانتقاد فلان صاحب الشل والحط في كافة مؤسسات الدولة، أو اختلفت مع أحد المسؤولين المحسوبين عليه، فلا أقل من عزلك من وظيفتك، وقطع مستحقاتك، هذا إذا لم يقم بسجنك لأشهر، أو بعث مَن يشبعونك ضرباً في أحد الشوارع العامة، وحتى لو كنت مراسلاً لقناة خارجية لم تسلم من العقاب، إذ لدى فلان من النفوذ السياسي والأمني ما يستطيع به أن يضغط على القناة إلى أن ترضخ لما يريد.
قد تقولون: وماذا عن العهد؟! والجواب يا سادتي هو: لقد ذهب كل مالكٍ بذهابكم، فذهب العهد إلى غير مالك.
* نقلا عن : لا ميديا