هناك أناسٌ شَرُفوا بالحق لما عرفوه، فتمسكوا به، والتزموه، وشَرُفَ الحق بهم، لِما أعطوه من جهدهم ووقتهم، وطاقاتهم وخبراتهم ومعارفهم، فقووا بذلك قواعده وأركانه، وعززوا مواقعه، وأسهموا بتوسعه وانتشاره، ومنحوه القدرة على البقاء والاستمرارية، حينما اتجهوا للبحث عن الطرق والأساليب الكفيلة بإيصال ندائه إلى كل أذن، وإبلاغ دعوته إلى كل قلب، فتوقظ بمعانيها السامية مشاعر المحبة له، والانجذاب إليه، من واقع الإحساس بمطابقته للفطرة، وملامسته لشؤون الحياة، وقدرته على تقديم الحلول والمعالجات لكل ما يعيشونه من هموم ومشاكل، ويقاسونه من آلام، ويواجهونه من تحديات ومصاعب وأخطار على كل صعيد، بحيث يصبح كل أثر من الآثار التي يحدثها ذلك الحق في النفوس وفي الواقع شاهدا من الشواهد التي تعزز الوعي بأهميته، وتحث على مواصلة السير في رحابه، من وحي القناعة الموصولة حبالها بحبل اليقين، والمؤكدة في ساحة الفعل والحركة بمبدأ الثبات والصبر الجميل، إلى جانب الحضور الذهني والبدني في كل ميدان يستدعي المرابطة والحراسة الدائمة لما تم تحقيقه، واكتمل بنيانه، ونمت غراسه، وطابت ثماره.
إن نجاح مثل هؤلاء الناس الذين وهبوا أنفسهم للحق، ما كان ليتحقق، لولا اعتمادهم طريق الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام جميعاً، إذ قدموا على الحق بعد أن خلعوا عن نفوسهم وأجسادهم وعقولهم كل شيء مشتملٍ على كل معاني الرجس والخبث والنجاسة والجهل والهوى، أو بعضها، فخلصت نواياهم، وطهرت نفوسهم، واستجابت قلوبهم لنداء القدسية، بفاعلية، يجليها الفهم الدقيق، والمعرفة الشاملة، فنهضوا بكل وادٍ للحيرة، هداةً إلى الجادة، وظهروا بكل أفقٍ أنجماً ترشد السالكين نحو بلوغ الحقيقة، فما خاب قصدهم، ولا ضل قاصدهم، لأن القرآن زادهم في رحلة الهداية، ومقامهم للاستهداء، وفهم الواقع، وتفسير الظواهر والأحداث.
إنهم ثلةٌ تمكنوا من نفوس مخاطبيهم، نظراً لمكانتهم العالية التي بلغها أولئك المخاطبون من نفوسهم، فهم لا يحملون الحقد لهم، ولا يعانون من عقدةٍ تجاههم، لسان حالهم ناطقٌ بمضامين الترغيب، صداحٌ بمعاني المحبة، وأفكارهم غنيةٌ بصور الجذب، زاخرةٌ بدلائل الرغبة بالإصلاح والبناء والتغيير نحو ما هو خير ورحمة وفضل للناس كل الناس.
لكنهم يظلون قلةً في كل زمان، مجهولين لدى كل جيل، وفي كل مكان، بفعل تمكن رواد الجهل، وأتباع الهوى من الإمساك بمقاليد الأمور، وحاكميتهم على ساحة وميدان الكلمة والفكر، فنتج عن ذلك وجود معاقين ذهنياً ونفسياً وأخلاقياً، وكثر التمادي في الابتعاد عن الحق، كجوهر، والاكتفاء بالتذكير ببعض المظاهر التي إن لم تقدم مرتبطةً بما قبلها، ممهدةً لما بعدها من الأسس والمفاهيم، مبنيةً على منهجية تراعي الإحاطة والشمول لكل جوانب الإنسان، ومجالات حياته، تصبح من الدواعي المنفرة للناس عن الحق، والعوامل الداعية لرفضه ومحاربته.
* نقلا عن : لا ميديا