لقد أصبح ظهور بعض الأشخاص في الاجتماعات والندوات واللقاءات التربوية والتعبوية والتثقيفية، أو حتى في نشرات الأخبار، وشبكات التواصل الاجتماعي: مزعجاً بالنسبة لي، ومصدراً من مصادر تعزيز التشاؤم لدي من إمكانية خلق أي تحول حقيقي فاعل في أي مجال من المجالات التي يكون هؤلاء هم المتصدرين لها، المعنيين في القيام بأمرها، المخولين في الحديث عنها ورسم ملامحها، ويعلم الله: أن هذا الانزعاج والتشاؤم الذي يسيطر عليَ كلما تناهى إلى سمعي صوت أحدهم، لم يكن نابعاً من كراهية للشخص بذاته، ولا ناتجاً عن حقد تغذيه دوافعي الشخصية، ورغباتي الذاتية في الانتقام أو رد الاعتبار لنفسي، أو حزناً على مصلحة أو وظيفة حُرِمتُ منها، ولكنه نابعٌ من واقع معرفتي بحجم التناقض الذي يطبع حركة وسلوك وأفعال ومواقف كلٍ من أولئك، الذين حينما تقترب منهم، أو تدرس ملامح حركتهم في الواقع، من خلال حملهم لجزء من المسؤولية هنا أو هناك تكتشف أنهم ينطلقون في الحياة ولديهم أكثر من شخصية، وكل شخصية من تلك الشخصيات التي يملكها كل فرد منهم لا يربط في ما بينها رابط، ولا يوجد أدنى عامل يمكن له أن يرينا وجهاً من التقارب أو التماثل بين واحدة وأخرى من تلك الشخصيات.
فأنت واجدٌ مثلاً أحدهم في شاشات الفضائيات، وزوايا الصحف يتحدث: عن عظمة الهدى الذي هو نعمة من الله علينا في هذا الزمن الصعب، والواقع المنفلت المفكك الخانع الخائر الضعيف الذي تعيشه الأمة، مشيراً إلى العنوان الجامع الذي يحدد لنا المبدأ، ويوحد القوى، ويجمع القلوب، على أساس الهوية الواحدة، وهي الإيمان بكل أركانه ومقتضياته، وآثاره، وما إن يفرغ من ذلك الحديث، حتى يتجه نحو الإتيان بما ينقضه عروةً عروة، ويخل به عنصراً عنصرا، ويخلخله ويقوض بنيانه لبنةً لبنة، أناني النظرة، سريع البطش بمَن هو أقل منه مرتبة وقوة وجاها ومالا، كثير الغضب لأتفه الأسباب، إذا خالفته في الحكم على الأشياء، أو بعضها، كان ذلك سبباً كافياً له كي يعاديك، ويحاربك، ويسعى بكل قوة للقضاء عليك تماماً، بلا رحمة، ودون مراعة لأيٍ من الثوابت التي جاء بها دين، أو عبر عنها خلق فطري إنساني سليم.
ومنهم مَن إذا تحدث في حضرة قرين القرآن، سليل النبوة ووارثها، سماحة السيد القائد أبي جبريل، أيده الله، بدا لك كأنه من: حواريي عيسى بن مريم عليهما السلام، وخلص أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأحرصهم على الثبات والتمسك بولاية الله ورسوله والإمام علي عليه سلام الله، فتجد نفسك وجهاً لوجه مع مصداق أبي ذر، وسلمان الفارسي، أو عمار بن ياسر، أو المقداد، أو أبي أيوب، تهزك كلماته، وتشدك حركاته، ويدهشك أسلوبه، ويثير مشاعرك حماسه، وانسياب مدامعه، فتقول: بهؤلاء سيقوم للحق دولة، ويكون له شأن في العالم برمته، وما إن تنقضي ساعة اللقاء بالمولى سيد الثورة رعاه الله، حتى تتفاجأ بذلك الشخص نفسه في ميدان العمل، بعد أن تمكن من التخلي عن الشخصية التي تركت لديك انطباعا جيدا بل ممتازا، ملبساً جلده لشخصية أخرى، أشبه ما تكون بذلك الشخص الذي كان يتخير المواطن واللحظات التي تساعده على الظهور أمام الرسول صلوات الله عليه وآله، وأمام مجتمع الإسلام الأول بمظهر المسلم الغيور قوي الإيمان، شديد الحرص على التنكيل بأعداء الله ورسوله، لا تسمع منه إلا: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، يقف رافضاً لمسألة موت النبي، مدعياً أنه ذهب للقاء ربه كما فعل موسى أربعين ليلة، وسيعود، فقط لدغدغة العواطف، ولفت الأنظار إليه، بينما في المواقف العملية، كان فراراً شاكاً، معارضاً للحق، رافضاً للتوجيهات، حائلاً بين المؤمنين ورسول الله، مثيراً للشبهات التي تطعن في شخصية الرسول، وتنزع ثقة المسلمين به، وتتهمه بالهجر، والهذيان، نتيجة الوجع، لتقيم نفسها في نهاية المطاف مقام رسول الله، بل ترى لها موقعاً أعلى منه، وتجعل رأيها أقدس من تعاليمه، وأحق بالالتزام والاتباع من توجيهاته.
وهكذا يستمر التاريخ في الحركة التي تريك وحدة الخلق، وواحدية النفسيات، واتحاد السنن الحاكمة لحركة التاريخ والكون، لتكتشف من خلال ذلك كله أن: هناك شخصياتٍ لا تعيش بذات واحدة وروح واحدة، وإنما هي إطار، يستطيع أن يحتوي أكثر من صورة، لأكثر من شخص، بين لحظة ولحظة زمنية أو مكانية أخرى.
* نقلا عن : لا ميديا