وجدته هذه الأيام، وقد شحب لونه، واختفت ابتسامته التي لم تفارقه يوماً، حتى في أحلك الظروف، وأصعب الأيام، وأشدها قسوة ومرارةً وحزناً عليه، كان يبتسم، بل لقد كان عادةً ما يطلق قهقهته الساخرة والهازئة من كل شيء أصابه، وظن مَن حوله أن ذلك سوف يكسره، ويطفئ جذوة العناد والإصرار على البقاء المشتعلة بين حناياه، وكان يخرج من كل المعارك والأزمات التي واجهته طوال حياته منتصراً، فما سر انكساره اليوم؟ وما طبيعة الوجع الذي يقاسيه، إلى الحد الذي أحال ابتسامته إلى دمعة، لا تكاد تغادر عينيه؟

ليس بوسعي أن أسأله، لأنني أخشى أن أزيد أوجاعه، وأسهم بتوسيع جراحه، لكنني سأكتفي بمراقبته فقط.

إنه الآن يسير على الرصيف، يتمتم بكلمات لم أتمكن من إدراك فحواها جيداً، قدماه تمضيان به كيفما اتفق، وكأنه لا يدري أين يذهب، رأسه يصافح الجدران والأعمدة والسيارات المركونة على قارعة الطريق، ومع ذلك لا يقف ولو للحظة ليتحسس الألم الناتج عن ذلك العناق المحموم والمتواصل.

وأخيراً جلس في إحدى الزوايا لأحد الأرصفة، وأخذ يقول:

لا دفء لا إحساس لا أنفاس لا

صدراً لأسند جبهتي وأنوحَ

بالطبع هذا بيت من قصيدة لأستاذنا القدير صلاح الدكاك، ولكن يبدو أن صديقي وجد فيه نفسه، وشاهد من خلال مضامينه الصورة المعبرة عن وضعيته أصدق تعبير.

عجباً لهؤلاء العميان، حتى المرآة التي حُرِموا منها نتيجة فقدهم البصر، يستطيعون أن يستبدلوها بمرآة في عالم المعنى أصفى وأوضح وأجمل من تلكم الموجودة في عالم الحس!

لا عليك يا صديقي، فالله موجود، وسوف يأتي اليوم الذي يتذكر فيه الذين أشعلوا الحرائق بدواخلنا وذهبوا، أننا لم نكن نستحق ذلك منهم، وأن عليهم العمل على إخمادها.