لقد عاشت مجتمعاتنا العربية والإسلامية مدةً طويلةً من الزمن، ولاتزال انحطاطاً فكريا، وانهياراً اقتصاديا وأمنيا، وتفككا وتمزقاً اجتماعيا، وتفسخاً سياسياً، ولعل السبب الأساس الذي يقف وراء كل هذه المآسي هو تصدر العقلية العشائرية والقبلية والطائفية للمشهد، وإمساكها بزمام ومقاليد الأمور كلها، فقد تمكنت من السيطرة على المفاصل والمواقع والمقامات القيادية العليا، وسطت على مواقع الثروة والإنتاج والعمل في مختلف الأقطار العربية، ولاتزال هذه العقلية تعمل من موقع ادعائها الوصاية على فكر وحياة وعادات وقيم مجتمعاتها على تأجيج الصراعات البينية، وبث كل ما يؤدي إلى التنازع والتقاتل والتقاطع والتباغض والعداء، وزرع بذور الفتنة في كل زاوية من زوايا الوجود الشعبي والاجتماعي، والحث على المزيد من الفوضى والاضطرابات في كل جزء ومكون للجسد الوطني أو الشعبي، كل ذلك طبعاً من خلال تبني هذه العقليات للسياسات التي أدت في نهاية المطاف إلى تنامي الشعور بالعجز والفشل في وجدان وضمير الأمة عن الوصول إلى مرحلة البناء للدولة الحديثة، وعن إمكانية الإيجاد لعلاقات إنسانية وأخلاقية وقانونية متوازنة مع كافة الشرائح والفئات التي تشكل معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ومع ذلك فهي تعيش حالةً من القهر والتهميش والإقصاء، حتى بقي هؤلاء الذين يشكلون ثلاثة أرباع مجتمعاتهم خارجَ دائرة الشراكة الوطنية، الذين نكلت بهم هذه العقلية القهرية التسلطية في كل مكان.
نعم حاولت الشعوب الحية، ونخبها المخلصة القضاء على هذه العقلية القبلية ذات النزوع السلطوي، ولاتزال تحاول حتى اليوم، وكلها أمل بمجيء اللحظة الحاسمة، القاضية بإزاحة وإزالة وتدمير ومسح النظم والمنظومات والقوى والشخصيات القائمة على حماية وحراسة وصون مرتكزات الوضع المزري، فقد مات كلياً الأمل بإصلاح كل هذه الخرائب من داخلها، أو التعويل عليها بأن تعمل شيئاً في سبيل تغيير حقيقي، يقدم الحل لكل مشكلة، ويوجد المعالجة لكل اختلال أو مرض، فقد حرصت هذه العقلية التدميرية على مدى عقود على استبعاد وتهميش جميع الكفاءات الأمر الذي أوقع مجتمعاتنا في معاناة طويلة الأمد، معاناةٌ كلها انكسارات وهزائم سياسية واقتصادية، طغت على العام والخاص، وعممت الممارسات السياسية والعملية والإدارية العقيمة، وتسببت بشيوع الفساد المالي والإداري.
والحقيقةُ أنها معركةٌ صعبةٌ وبالغة الخطورة، فنحن في مواجهة عقلية قبلية تسلطية، عملت لعقود من أجل تحقيق غرض واحد هو ضمان أمن نخبها ومركباتها وأياديها وكلابها السياسية وسواها من العاهات المتعددة الواسعة، التي لا شيء بمستواها لدى تلك العقلية، التي ستعمل بشتى الطرق والأساليب على حمايتها، فهي الكفيلة بمدها بكل ما تحتاجه من عوامل الاستقرار، وثباتها في الأماكن والمواقع المتقدمة، وتفردها بحق الحصول على المراكز والمناصب العليا، حتى وإن قامت بإبادة شعب عن بكرة أبيه، فالمهم هو بقاء وجهها الغشوم، ولو بالقوة الهدامة العنيفة الظالمة الرعناء.
* نقلا عن : لا ميديا