ليس من السهولة بمكان أن يستطيع شخصٌ كانت تُسيطر عليه نزعة العصبية، أن يذوب في مشروع رسالي، إلى الحد الذي يمكنه من صياغة ذاته وضبط سلوكه وبناء دوافعه على مستوى المواقف والأفعال وفقاً لما يقرره ذلك المشروع، لأنه أشبه ما يكون بكائنٍ بحريٍ، فالعصبية هي عالمه، وأي محاولة لإخراجه من هذا العالم بالنسبة له هي: محاولة لإنهاء حياته، لذلك تراه مهما اتسعت الحياة، وتقدمت العلوم والمعارف، واختلفت الأطر التي تتخذها المجتمعات وسيلة لتجميع قواها وتوحيد جهودها وطاقاتها، بغرض الحفاظ على مكتسباتها وحماية وجودها، إلى جانب سعيها الإنساني ضمن تلك الأطر الاجتماعية والسياسية والتاريخية واللغوية والثقافية والسياسية والجغرافية إلى التكامل مع بقية الكيانات والأمم الإنسانية الأخرى، منشداً إلى عالمه الخاص، إذ التاريخ والأسرة والقبيلة والعشيرة والشعب أو الأمة ليست أطرا وجزئيات تدفعه نحو التكامل مع بني جنسه، وإنما هي أسس وكليات يبني على ضوئها تصوراته وأفكاره، ويحدد كذلك بالاستناد إليها علاقته بمَن حوله ومواقفه منهم ونظرته تجاههم، باعتبار أن كل الدوائر التي يربطه بها رابط الانتماء سواءً صغرت تلك الدوائر أم كبرت واقعةٌ ضمن المطلقات التي عليها يحيا وفي سبيلها يموت، نعم ليس عيباً ولا جرماً أن يحب الشخص قبيلته ولغته ومنطقته وحزبه وجماعته، وأن يحرص على حمايتهم بالدفاع عنهم والوقوف إلى جانبهم، ولكن شريطة ألا يخرج ذلك عن الإطار الذي يجعل علاقته بهؤلاء منسجمة مع تعاليم الله، ومضبوطة بضابطٍ من دين وخلق وقيم ومبادئ الرسالة، التي تقرر أن كل ما ينتظم به وجود الإنسان، وتقوم عليه حياته وعلاقاته ومشاعره وشخصيته ما هو إلا الجزئي الذي لا بد أن يسير به نحو الكليات، والمحدود الذي يجب ألا يعظمه الفرد حتى يحل في كيانه ومشاعره محل المطلق، وهو الله سبحانه وتعالى، الذي له وحده العبودية والطاعة، وفي سبيله يجب بذل الروح والمال وكل شيء، أما ما سواه تبارك اسمه، فهو الضعف والانحطاط والوضاعة، مهما عظم في عين العابدين له، وكثرت أنسجتهم الفلسفية والكلامية حوله، فسيظل كبيت العنكبوت، «وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون».
وأما ما لا بد من التنبيه عليه، والحث على ضرورة إدراكه ومعرفته، لكي نتمكن من الحد من آثاره التدميرية ونفوذه المتزايد هو: أن واقعنا اليوم بات يشهد وجود مثل هذا الشخص في أكثر من موقع من مواقع المسؤولية، وهذا يمثل الخطورة بعينها التي تتهدد الثورة والمشروع والمجتمع، لأن حركة هؤلاء استطاعت أن توظف شيئاً من التعاليم الدينية لخدمة نزعتها العصبية، وشعورها الاستعلائي المقيت، ونظرتها الدونية، وهذا ليس جديداً في تاريخ الرسالات بكلها، فاليهود هم النموذج الأبرز لهكذا عمل وتوجه، إذ كانوا أول مَن اعتبر الدين والإله حقاً خالصاً لهم، وليس للشعوب والأمم الأخرى الدخول معهم في ذلك الحق أو مشاركتهم هذا الفضل.
ثم جاءت مرحلة الإسلام، فكان انتقال رسوله الكريم إلى الرفيق الأعلى، الباب الذي دخلت منه قريش لتجعل النبي والإسلام والسلطان وكل شيء حقاً طبيعياً لها، ملغيةً بذلك وجود الأمة ودورها، بحيث حولتها إلى هامش لا وزن له، وليس هذا فحسب، بل لقد كان من مخرجات انقلاب السقيفة العمل بما تقرره صلات النسب والمصالح الشخصية، وإن أدى ذلك إلى المخالفة الجسيمة للدين، والتجاهل المتعمد لتعاليمه، حتى بلغ الأمر بأحد الخلفاء أن يقرر على بعض القبائل العربية التي لا تنتمي إلى الإسلام الزكاة بدلاً عن الجزية، بدافع العصبية للعروبة، كما لا يختلف عاقلان أن لا سبيل لتولي مجرمي أي أمة جميع مقاليد أمورها، وتفجيرها من الداخل، إلا عندما يصبح انتماؤها الإنساني والديني قائماً على العصبية والشعور القومي المفرط، الذي يجعل انتقادها في خط ما تعدياً على الثوابت، ومساساً بالمطلقات.
* نقلا عن : لا ميديا