كلما أمسكَتْ يدي القلم، أحسست بأنه يبتدرني بالقول: على أي الجراحات المخبوءة تحت رداء التجاهل، والمضمّدة بضماد النسيان، سيتكئ حديثك؟! وعن أي دمعةٍ حزينةٍ سينبثق مداد حروفك؟! لقد قال الراسخون في الغفلة كلمتهم، وأبان الغارقون بوحل الأهواء وجهتهم، فما عساها تجدي أصلاً تحرياتك عن كل مسكوتٍ عنه، وهناك مَن قرر ألا يصغي لعليٍ، ولا يعمل بما احتوته مضامين رسالته السياسية والاجتماعية والفكرية والعلمية والاقتصادية والعسكرية الواردة في عهده المشروح تمام الشرح في بضع عشرة محاضرة ودرساً؟!
ثم لماذا لا تلتفت إلى مصلحتك، وذلك بالتقرب لهذا عن طريق البعث برسالة مدح وثناء، وخطب ود ذاك بالانصياع لكل ما يراه هو مناسباً، وترك التناول لكل ما يكره الحديث عنه؟! انظر لمَن سلكوا هذا المسلك، والتزموا هذا الخيار كتوجه، ها هم اليوم يرتقون أعلى المناصب، ولهم الأولوية دون سائر أبناء المجتمع في كل التعيينات، فمنهم مَن أكسبه النفاق درجة محافظ أو وزير أو وكيل وزارة، ومنهم مَن ارتقى بالطاعة العمياء لأهل الحل والعقد في كل الأحوال إلى منصب رئيس قطاع أو مؤسسة، وعضو مجلس شورى، ولربما على أقل تقدير مدير مكتب أو وسيلة إعلامية...!!
وفي المقابل انظر إلى الحالة والوضعية التي يعيشها مَن لزموا الصدق، والتزموا الحق، ونصحوا بمحبة، وقالوا من موقع استشعارهم للمسؤولية، وعملوا ويعملون من منطلق وعي إيماني، وبموجب تمثلهم لروحية جهادية ثورية، لا تقبل سوى الكمال؛ فستجدهم ما بين معزولٍ عن عمله، أو مجرد من كل العوامل التي ستمكنه من القيام بدوره، أو معرض لشتى صنوف وأشكال التضييق والتشويه والتهميش، وموضوع في القائمة السوداء، ولربما أن أغلب هؤلاء على وشك الطرد من مساكنهم لعجزهم عن دفع الإيجار، أو قاب قوسين أو أدنى من الموت جوعاً، أو تحت تأثير الأمراض التي لا يجدون القيمة الكافية لشراء دوائها، بل بعضهم لا يقدر على شراء حبة اسبرين!!
ولكن قلمي لم يكن في كل هذه الوسوسات محقاً؛ إذ لو أنه أدرك أن القضية قضية دين ورسالة، لأمكنه ذلك من استيعاب المهمة التي تلقى على عاتق كل أبي ذر، في كل مكان وعصر. إنها المهمة التي تحتم على صاحبها، ومن موقع اعترافه بوحدانية الله الخالصة، أن يجعل علاقته بالله ومعرفته له باباً لمعرفته بنفسه، ومعرفته لعلاقته بالناس والكون من حوله، فما الدين إلا استقامة وإيمان عملي، وتوجه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوة للخير والبناء، ثم مَن يعذرنا من الله إن لم نقم بواجبنا؟! ولعل هناك مَن سيستفيد، فيحسن بعد الإساءة، ويصلح بعد فساد، وأما المناصب والمكاسب والهبات فمَن قال إن بالغيها بعد أن داسوا على إنسانيتهم، واستهانوا بدينهم، وخانوا عهدهم مع الله، وزيفوا الحقائق، قد اكتسبوا الخلود؟! إنهم حكموا على أنفسهم بالموت والخزي والضياع، وإن عاشوا مدة من الزمن على التل، تلقي إليهم مائدة معاوية بأشهى الأطعمة، فذلك كله لن يدوم. وأما طريق أبي ذر، فهو: العزة والخلود، والحياة المعطاءة والمتجددة في كل جيل. وهنا يتجلى الكسب الحقيقي، ويتضح معنى الرفعة والغنى على أصوله.
وعليه سنظل في هذا الطريق وعلى هذا النهج حتى نجد للدم المبذول في سبيل الله أثراً في نفوس المسؤولين، وفي الواقع، وسنظل على هذا الدرب نسير، حتى نجد المعنيين قد التزموا المسيرة منهجاً وسلوكاً وحركة، وغادروا ممارساتهم الشبيهة إلى حد التماثل بالمسكنات، والتخدير الموضعي.
وأخيراً فإن تل أبي هريرة لن يسقطنا، وإن بتنا لا نجد الماء والهواء في ربذة أبي ذر؛ إذ العبرة بالعواقب والآثار، وليس بما عليه حال كلا الفريقين.
* نقلا عن : لا ميديا