قلنا بالأمس: إن الخطر الحقيقي الذي يتهددنا هو: وجود المبطلين الذين يقومون بإعطاء باطلهم صبغةً دينية، لكي يتمكنوا من القضاء على حملة المشروع الإيماني بمفهومه الصحيح من الداخل، وعرفنا أن هذا هو الواقع الذي شهدته جميع مراحل التاريخ الرسالي برمتها، ولكن لا بد أن ندرك أنه ليس بالضرورة وجود هذا التيار الذي لا هم له سوى تخريب المسيرة من داخلها، وذلك أن يسارع في الانضمام إليها، ويحرص على تبني كل شيءٍ من شأنه أن يؤكد ذلك الانتماء، كي تُسهل مهمته، بل إن هناك مَن كان التزامهم بالرسالة التزاماً حقيقياً وتاماً في أول الأمر، ولاسيما زمن الاستضعاف، ولكنهم ما إن يشعروا بالاطمئنان من زوال الخطر الذي كان يتهددهم، حتى يعودوا لنفس الحالة التي كانوا عليها قبل دخولهم في المجتمع الرسالي، تماماً كما هو حال أولئك المشركين الذين كانوا يؤمنون بالله كلما شعروا بالهلاك في أعماق البحار، نتيجة شدة الرياح، وارتفاع الأمواج، ولكن ما إن يخرجوا إلى البر حتى يعودوا لما كانوا عليه، كما بين ذلك المولى عز وجل، في أكثر من آية في القرآن الكريم.
وهناك مَن يقع أسيراً لهواه، بعد أن يقطع شوطاً طويلاً في ظل المعاناة التي يستوجبها السير على طريق ذات الشوكة، ولكن ما إن يبلغ القمة حتى يصاب بالدوار، ليبدأ عندها في الانحدار والسقوط شيئاً فشيئاً حتى يصبح في قعر الوحل والعدمية، إذ تملكه الغرور، واستحوذ عليه الاعتداد بنفسه، إلى الحد الذي جعله ينسى ربه، ويتنكر للفكرة التي كانت دافعاً لحركته، وقيمةً يصوغ على ضوئها مبادئه، وأساساً يلتزمها في سلوكياته، إذ تحل الأشياء من منصب وجاه ومال محل الفكرة والنهج، ليعمل بعد ذلك على تطويع النهج لخدمة وجوده ومركزه، ودوام سلطانه، وسيجد في ما يطمح إليه أعواناً وداعمين كثرا، من علية القوم تجاراً وأصحاب رؤوس أموال، ونخبةً من الكهنة وعلماء السلاطين، وجيشاً من المهرجين والغوغاء والمنتفعين، وعباد المصالح والشهوات، فتسود لدى المجتمع ثقافة التبرير والتجهيل والتخدير، وتعم حالة اللامبالاة، ويصبح الهم في الخلاص متجهاً بالجميع إلى التخفف من كل ما اعتقدوه حقاً، ولا بأس أن يبقوا على بعض المظاهر التي تذكرهم بإحساسهم الديني، كمحاربة الغناء والتدخين وغيرها من الأشياء التي لا تحدث تأثيراً على فساد الفاسدين الحقيقيين، من قضاة ومسؤولين، أو تحدث نهضة في الوعي العام.
وهكذا يصبح الحرص على توفير الكم الهائل من الأفكار التي هي صحيحة في جوهرها ومظهرها، ولكنها تُقدم للناس دونما تخطيط منهجي، أو دراسة الوضعيات الاجتماعية، وما الذي نحتاجه اليوم هنا وسنحتاجه غداً هناك، أضف إلى ذلك أن الغاية لدى مثل هذا الصنف من وراء إثارة الأفكار والنقاشات، وكل الخطابات الرنانة، ليست البحث عن الحلول، وإنما التتويه والتعمية والتدجين، أو البحث عن مسكنات لا تنهي الألم من جذوره، ولكنها تلهي المريض عن الإحساس به وهو يزداد قوة وفتكا وضراوة بجسده دون أن يشعر.
* نقلا عن : لا ميديا