ليس في أعمال الأحرار والشرفاء ولا في مواقفهم شيءٌ يندمون عليه، فهم إن فعلوا أو قالوا كان ذلك بناءً على اعتقاد بالحق استيقنته نفوسهم، وصدقت به قلوبهم وعقولهم، فالتزموه سلوكاً وأخلاقاً، وتمثلوه مواقف تحكمها القيم والمبادئ، فلا انقلاب على الأعقاب بعد بينةٍ من الله جاءتهم، ولا خوف من المستقبل، أو تراجع وتخبط وانحسار على مستوى الحركة والفعل في ظل الزمن الحاضر، لأن القلوب متعلقةٌ بالله، محاطةٌ بألطافه، وتواقةٌ لنيل رضاه.
فكيف لمَن كان هذا حاله أن تسقطه الأحداث والأزمات، أو أن تعبث به الرياح الناتجة عن المتغيرات الحاصلة في أكثر من بلد أو إقليم من حوله؟ لاسيما وهو يسير في خطواته كلها على هدى الآيات البينات التي احتواها كتاب ربه سبحانه وتعالى، إلى جانب ما يزخر به الواقع من شواهد تؤكد له أنه سائرٌ في المسار الصحيح، ففي كل حدثٍ يمر به، أو قضيةٍ يقف عليها، أو ظاهرةٍ طبيعية أو إنسانية يعايشها عبرةٌ ودرس، يمنحانه المزيد من الوعي بأهمية الدور الذي يقوم به، ويكسبانه المزيد من المعرفة لنفسه ولطبيعة الحياة والناس من حوله، ويفتحان أمامه المزيد من الأبواب التي توصله إلى تحصيل ما يلزم من إمكانات وأشياء تعينه على بلوغ غايته التي يسعى إليها في رحلته الطويلة تلك، ومادام قد تمكن من تجاوز الصعاب في مراحل حركته الأولى، فلم يستسلم لظلم الظالمين، ولم ينحنِ أمام هيمنة واستكبار المستكبرين، ولم يعبأ بفارق القوة بينه وبينهم، بل ظل ثابتاً متماسكاً صابراً مبادراً سباقاً بالعمل الصالح، ومسارعاً إلى الله من خلال الجهاد في سبيله، كما لم تسقطه مطامع النفس ورغباتها في محيط الشهوات والأهواء، في المراحل التي تحقق له في ظلها شيء من النصر والغلبة، وبات يجني خلالها بعضاً من ثمار التمكين، فإن كل شيءٍ يراه على مستوى الكون والأحداث والأشخاص والمخلوقات، بل وحتى على مستوى ما يجده هو في نفسه، لن يكون إلا عاملا من العوامل التي تمنحه السداد والثبات، ووسيلة من الوسائل التي تكشف له أنه صار على الحق الذي لا يعتريه شيء من الباطل أبداً، فيجد البشرى بالفلاح تهمي عليه من كل حدبٍ وصوب.
وفي المقابل لهؤلاء الأحرار، نرى أولئك الذين انسلخوا من آدميتهم، وتنكروا لدينهم، حفاظاً على مراكزهم الاجتماعية، ورغبةً بالمزيد من العلو في الدرجة والثروة، كيف صاروا أذلةً مهانين، بعد أن سخروا ألسنتهم وعقولهم لخدمة الباطل، وبذلوا قصارى جهدهم لتزييف الحقائق، وشهدوا على أنفسهم بالكفر، من خلال مسارعتهم في مودة الظالمين والمستكبرين، وموالاة اليهود والنصارى، ومباركة كل فعلٍ فيه سفك لدماء المستضعفين، ونهب لثرواتهم، وتدمير لبلدانهم، فخسروا كل شيء، وباتوا يعضون أصابع الندم، ويتقلبون في جحيم الحسرة جراء ما آل إليه حالهم، إذ بات الذين أعانوهم يوماً على الظلم والطغيان يمارسون عليهم هم أبشع أنواع الظلم والاضطهاد، فيصادرون ثروات بعضهم، ويسجنون ويعدمون بعضهم الآخر، من ذلك ما حصل مؤخراً على القسيس السديس، الذي لم يترك وسيلة تقربه من ابن سلمان إلا وعمل بها، ومع ذلك باء بالخسران، وصار من اللازم أن يرى عاقبة وبال أمره في الدنيا قبل الآخرة، «فمَن أعان ظالماً على ظلمه أُغريَ به».
* نقلا عن : لا ميديا