القلوب التي تتعلق بنور الحقيقة لا تلتفت لمقدار ما ستلاقيه من عناء، وهي تقطع الدروب المشبعة بظلمات الباطل، والمحاطة بكل حراس الوهم والزيف، ولا تكترث لما يجب عليها دفعه من جهدها ووقتها في تلك الرحلة، ولا يضيرها طول المسير مهما تباعدت المسافات بين نقطة الانطلاقة ونقطة الوصول، كما لا تهتم بحجم الصعوبات والمخاطر التي لا بد لها أن تمر بها، إذ هي على درجةٍ عاليةٍ من الصبر في سبيل الوصول لمبتغاها، مع التحلي بالاستقامة والثبات على الدرب الذي اختارت المضيّ فيه عن وعيٍ وقناعةٍ تامين، واللذين يولدان من رحم اليقين الراسخ بسلامة وصحة الاختيار، القائم على سمو المبدأ، ونبل الغاية، وطهارة الوسيلة، وطبيعة الهدف الذي لأجله تُسترخص الأرواح، ويُستطاب بذل الدماء، وتهون التضحية بكل ما يعز على النفس مفارقته، أو التفريط فيه.
وأي هدفٍ أرقى وأعظم وأجل من الهدف الذي بات اليوم هاجسَ كل مجاهدٍ حرٍ في بلدنا وفي كل قلعةٍ من قلاع محور الجهاد والمقاومة؟ وهو: أن نرى مجتمعنا وأمتنا ينعمان بالحرية والكرامة، ويتمتعان بالقوة والمنعة والاستقلال والسيادة، ويعيشان في بيئة صالحة لإيجاد التقدم العلمي، والبناء الحضاري، على أساسٍ من هُدى الله، ومن منطلق الثقة المطلقة به سبحانه، والاعتصام بحبله، كنتاج طبيعي لما يقتضيه الإعلان بتوحيده في مفهومه العملي لدى كل مؤمن ومؤمنة.
وقد سبقنا الآلاف من الأخيار في السير باتجاه هذا الهدف، ومهدوا لنا الكثير من الدروب الوعرة، وأزاحوا من أمامنا الكثير من العقبات، كما استطاعوا القضاء على الكم الهائل من الحيات والعقارب، التي كانت تتأهب لغرز أنيابها في أجسادنا، ونفث سمومها في كل مجاري دمائنا، فعلوا كل ذلك حينما فاضت أرواحهم إلى رحاب الله شهداء في سبيله، وسالت دماؤهم في ثرى كل أرض لكي تسقي زروع العزة، وتنمي وترعى منابت الإيمان والحق والعدل والكرامة لدى كل جيل، ولم يبق أمامنا خيارٌ إلا أن نحفظ أمانتهم التي حملونا إياها، ونؤدي الحقوق التي عهدوا بها إلينا، كلٌ بحسب قدراته، وفي مجاله، دونما تواكل أو تسويف.
وليعلمْ رجال الكلمة، من حملة القلم والفكر عن صدقٍ في الإيمان بالله، وإخلاصٍ للرسالة، من موقع الولاء والطاعة لله ورسوله والمؤمنين: أن أمانة الدم التي حملنا إياها كل شهيد تقتضي منا البقاء على يقظة تامة لحراسة كل القضايا التي ضحوا من أجلها، ولا يقولنَّ أحدٌ: لقد سئمنا المكوث على هذا الحال، ونحن ننادي وننصح، ونحاول فعل شيء، كي نسهم في إحداث نقلة ما، على طريق السعي لتحقيق التغيير الشامل، ولكن ما من مجيب، إذ الميدان اليوم ميدان المهرجين والخاوين فكرياً، وحتى أخلاقياً، فهم مَن كلمتهم مسموعة لدى الجميع، والأبواب مشرعةٌ لاستقبال كل شيء يأتي من قِبَلهم، وحاجاتهم مهما عظمت أو صَغُرَتْ دائماً مقضية، أما نحن فكأننا نكتب لأنفسنا، ونتحدث فلا نجد سوى ارتداد صدى أصوات كلماتنا، التي تنطلق منا فلا تجد أمامها سوى الفراغ، فترتد إلينا من جديد خائفةً مستوحشةً متعبةً مذعورة لهول ما وجدته. ولكن هذا كله لا يعد سبباً كافياً لكي نسلم بالهزيمة، بل علينا أن نحوله إلى دافع للمزيد من العطاء الفكري، والعمل التوعوي، ولنتذكر دائماً قول المولى تبارك اسمه: {إنّا لا نضيع أجر مَن أحسن عملاً}. إلى جانب التزود من أحداث التاريخ، فكم من الشخصيات والأفكار رُجمت بالحجارة في زمانها، ولكنها صارت في ما بعد هي القيمة والمرجعية التي يستلهمها كل حر، ويستند إليها كل فكر، على مدى الأزمان، حتى يرث الله الأرض وما ومَن عليها.
* نقلا عن : لا ميديا