يحوي القرآن الكريم بين طياته من الأسس والقواعد والموجهات التربوية الشيء الذي يمثل لحملته الضمانة من الوقوع في أتون الانحراف الذي شاب حركة أتباع الرسالات الإلهية في كل زمان ومكان. وقد بيّن لنا الله سبحانه نفسياتهم، وطبيعة تعاملهم مع الهدى، وكيف كانت حركتهم العملية على مستوى الالتزام الفكري أو الأداء، كل ذلك لكي نختار السير في خط الاستقامة الذي رسمه الله لنا على صعيد الفكر، أو العمل، أو الموقف، أو العلاقات والتعاملات، دون أن نتجاوزه إلى غيره، وهو الخط القائم على الإقرار بوحدانيته، وإخلاص العبودية له، والتحرك في الحياة كلها على أساس ما قرره هو في كتابه العزيز، حتى لا يبقى هنالك شيء في شخصية المسلم خارج نطاق هذا البناء المتكامل، بحيث لو أنه أخضع فكره أو نشاطه العملي لأي قواعد أخرى لم تكن ضمن هذا البنيان، فإنه بذلك قد تجاوز خط الاستقامة إلى الانحراف، وخرج من إطار التوحيد لله، إلى خانة الشرك.
ولقد وجدنا الآيات البينات المتضمنة للأمر من الله لرسوله وللمؤمنين الذين ساروا معه صلى الله عليه وآله في طريق العبودية لله، القائمة على اتباع النظام الذي حدده هو في كتابه، وتمثل كل ما ارتضاه هو لعباده كشرعة ومنهاج، إلى جانب التحذير من التجاوز في ذلك زيادةً أو نقصاناً، وذلك ما يجعل همّ الجميع متركزاً على كيفية الحصول على رضى الله، في كل فكرة أو قول أو عمل، ويمنع حدوث الطغيان من قبل المؤمنين، قيادةً وأتباعاً، فليس لأحدٍ أن يقدم نفسه بديلاً عن الله، أو مشرعاً نيابةً عنه، فالكل عبيده، ومملوكون له. من هنا كان الأمر بالتأسي والاقتداء والاتباع للأنبياء والأولياء مبنياً على هذا الأساس، أي بلوغهم الدرجة العليا، في مستوى الكمال البشري في العبودية والطاعة لله، في فكرهم وسلوكياتهم والتزاماتهم العملية، فالارتباط بهم يشد إلى الله، ويعزز روابط الاتحاد بين أتباعهم، ويمنح الساحة الوضوح في المفاهيم، والدقة والقوة في الأفكار المطروحة، ويضمن سلامة الحركة، ويحافظ على بقاء الأهداف المرجوة والمعلنة دون تبديل أو تغيير أو ارتباك، وقد بيّن لنا التاريخ أن حصول تبدل المفاهيم، وتغيُّر الأفكار، وارتباك الخطوات، وضياع الأهداف، لم يكن إلا نتاجا طبيعيا لاتباع الطغيان في كل شيء، وتغليب الهوى والمطامع الشخصية، على رضى الله، والغفلة عن أنه مطلع على عمل العاملين، عالمٌ بنواياهم، رقيبٌ عليهم في سرهم وعلانيتهم، الأمر الذي يدفعهم لتجاوز الحدود المرسومة لهم من الله في كل شيء، وعلى كل المستويات.
وهم بالطبع لم يكونوا يصرحون بانقلابهم على الهدى، وتمردهم على الله في ما شرعه لهم من الدين، بل كانوا يمارسون سياسة الخلط بين الحق والباطل، ليتمكنوا من تقديم كل ما هو فساد وانحراف وبغي باسم الإسلام، إلى أن استطاعوا في نهاية المطاف أن يجعلوا من القبول بالظلم والتماهي والركون إلى الظالمين مسألة منسجمة مع الدين، وداخلة ضمن المسائل العبادية لله، الواجب تقبلها طاعةً له.
وللأسف الشديد فهؤلاء ليسوا حكراً على الماضي، فيسلم منهم الحاضر والمستقبل، بل سيظلون ظاهرةً بشرية إلى يوم القيامة، وما لم يعمل المؤمنون على فضحهم، وكشف مخططاتهم، وبيان ظلمهم وانحرافهم وفسادهم، فإن الخسارة في الدنيا ستعم الجميع، بحيث يتخلى الله عنا، ويحل الخزي بنا، ويتمكن العدو الكافر المستكبر من إلحاق الهزيمة الشاملة بنا في كل المجالات، ويتم له أمر السيطرة علينا، واستعبادنا بشكل مطلق، وبعدها جهنم وبئس المصير.
* نقلا عن : لا ميديا