كم هو مغبونٌ ذلك الإنسان الذي يظل في حركةٍ دائبةٍ في ميدان العمل، ولكن دونما فكر عميق بطبيعة العمل الذي يعمله، مع جهل مطبق بالآليات والعوامل والأسس المطلوب توفرها ليُكتب له النجاح، وضعف التقدير للأولويات التي لا بد من الانطلاق منها في الخطوات الأولى، وعجز عن التدبير والفهم للواقع، وما يتخلله من أزمات ومشكلات واهتزازات، لا يملك القدرة التي تمكنه من التعامل معها، لكي يتمكن من إيقاف حركتها، أو الحد منها، ناهيك عن معالجتها بالكلية!
إنه فاقدٌ للرؤية، وإن امتلك الحماس الذي يساعده على الاندفاع، ويجعله في حالة نشاط دائم لا يزول ولا يخبو، فما جدوى الاندفاع دونما فكر يرسم الطريق أمام الخطى؟ وما قيمة النشاط الدائم وهو يُبذل في الرمال، ويجري باتجاه بعيد عن الهدف المطلوب لذاته من قبل الأحرار؟ إذ الحديث هنا عمن يملكون المشروع الفكري والحضاري والإنساني المحكم بآيات القرآن، والواسع بسعته، والشامل لكل شيء بشموله، والكامل بكمال هذا الدين، والقوي بقوة رب السماوات والأرض، الذي وعد بنصره، وتعهد برعايته وحفظه، فنظروا لما تحت أقدامهم، ولم يتطلعوا بأبصارهم إلى آفاق هذا الكون، فيدرسوا مباني وجوده، ويحيطوا بنظمه وقوانينه، ويتفهموا طبيعة حركته، ويتعرفوا على عناصره، ويكتشفوا أسراره، بعد أن يعرفوا نفوسهم، ويتمكنوا من إدراك ما أودع الله فيها من مؤهلات وقدرات ومواهب تختلف من شخص لآخر، وتتنوع بتنوع حاجات الإنسان، ومتطلبات حياته المختلفة، ولكن لا سبيل للاستفادة من تلك الكنوز إلا من خلال الاعتصام بحبل الله، الذي يحول هذا التنوع الإنساني في الأذواق والقدرات والأفكار والاهتمامات والهوايات والأعمال والمهن والفنون والتجارب وغيرها من الأمور إلى جداول وعيون وأنهار متنوعة في حجمها وشكلها، متباعدة من حيث المنبع والمكان الجغرافي، ولكنها مهما اختلفت وتباعدت وافترقت وتنوعت تلتقي لتصب في مصب واحد، وتجتمع في بحر واحد، هو بحر المجتمع أو الأمة، إن جاز التعبير، الذي بفضلهم جميعاً يتكون، وينمو، ويقوى، وينهض، ويسمو، ويرتقي، ويتطور، ويتقدم، ويدوم، ويستقر.
إن مشكلتنا اليوم هي أننا غفلنا عن هذه القاعدة، أو أغفلناها، مع أنها من صميم نهجنا الجهادي الثوري، وواحدة من الأسس التي تقوم عليها التربية العملية لدينا، فكانت عاقبة الانصراف عنها متمثلة بكل أو معظم ما نعيشه من مشكلات وأزمات، ونعاني منه من سقطات واختلالات وتصدعات، ونشهده من سلبيات وأوضاع مزرية، إذ تحول معظم المعنيين إلى كون قائم بذاته، هو مَن يختار ويفرض، ويوجه، ويعمل كما يحلو له، وما على المجتمع المجاهد الثوري إلا السير خلفه، فبات المسؤولون ومَن يعملون تحت إدارتهم النخبة التي ترى نفسها كل شيء، فهي البحر والنهر والجدول، لذلك لم يعد لأصحاب الخبرات والقدرات والمواهب والأفكار وجود أو أثر، إلا في ما ندر، وخصوصاً في الجانب الإعلامي سياسةً وبرامج وتوجهاتٍ، ففلان وفلان فيهما الكفاية، وليذهب الواعون والمحيطون به علماً إلى الجحيم، وإلا بالله عليكم: هل من المعقول أن تكون هناك مؤسسة أو جهة إعلامية تذهب بالتزامن مع ذكرى استشهاد فارس الكلمة ومعلمها الخيواني، لإقامة نشاط أو فعالية أخرى، ولا تهتم بذكراه لا من قريب ولا من بعيد؟ ألا يعد هكذا تصرف مقياسًا لمعرفة مستوى الانحدار والفشل وضيق الأفق لدى إعلامنا الموقر؟
إنها بحق سقطةٌ لا تغتفر.
* نقلا عن : لا ميديا