فلان كاتب، وفلان باحث، وفلان أديب، وفلان خطيب، وفلان مفكر استراتيجي، كلماتٌ لطالما سمعناها، وهي توضع كعلامات دالة على الكثير من الأسماء والشخصيات، بغرض تعريف السامع أو المشاهد أو القارئ بهم، ولفت انتباهه لما يقدمونه من أفكار، وجذبه تلقائياً إلى صف الجماهير المهتمة بمتابعة نتاجهم، والتي لا يمكن لها أن تجزم بحقيقة خبر، أو زيفه، ولا تقطع بصحة أو بطلان قضية ما إلا بعد أن تسمع أولئك وهم يتناولون كل ذلك بالعرض والنقد والشرح والدراسة التحليلية، فتأخذ بكل ثقة واطمئنان ما توصلوا إليه من نتائج ورؤى وتفسيرات، وتتبنى بقوة كل ما يرد عنهم دون أدنى تفكير أو تردد أو نقاش، ويكفي لترميز هذا أو ذاك لدى الجمهور أن: يظهر على التوالي، ودون انقطاع خلال الأحداث الهامة، التي تؤسس لنشوء متغيرات من نوعٍ ما، أو انقلاب لموازين الصورة المألوفة لدى الناس في أي زاوية من زوايا الحياة والواقع، ولكن شريطة أن يكون هذا الظهور مقتصراً على وسيلة إعلامية ذات دور محوري، ولو من حيث الشكل أو التسمية أو موقعها من الجهات والحركات الفاعلة والمؤثرة في الميدان، وقربها من مراكز القرار، أو عبر الفعاليات والمظاهرات والحراكات الجماهيرية الكبرى.
من هنا وجدنا: ميدان الثقافة يشهد اتساعا وتنامياً مطرداً من حيث عدد الأسماء والشخصيات التي تنضم إليه تباعاً بين وقتٍ وآخر، ولكن لماذا لم نجد لتلك الكثرة النامية أي أثر حقيقي في كل شيء له علاقة بحياة الناس وهمومهم ومشاكلهم اليومية؟ هل لأن المثقفين هؤلاء يكتفون بتحليل الأحداث السياسية والعسكرية، ويقتصرون على تناول ما يستجد لدى مراكز وقوى النفوذ محلياً وعالمياً، ولا شأن لهم بعامة الناس؟
إنها تساؤلات طبيعية وواقعية، نهدف من خلالها لاكتشاف الدور الذي يلعبه المثقف اليوم، إلى جانب معرفتنا بمدى علاقة الوسط الثقافي بالناس، والتي نستطيع رصدها من خلال ما نلمسه منهم من مستوى التفاعل مع هموم هؤلاء الناس، وتفانيهم في إزالتها، أو على الأقل التخفيف منها.
لست هنا بصدد الاتهام أو الحكم على المشهد الثقافي والفكري عموماً بالسلبية والقصور وضعف الأداء؛ ولكني أسعى لبيان طبيعة النشاط الثقافي، خدمةً للحقيقة، ورغبةً في تصحيح المسار، وتحسين الأداء، وأملاً بإيجاد شيء من الإنصاف للنفس. وعليه فمثقفونا اليوم ينقسمون لعدة أقسام:
1 - مثقفـــــون صوريون، اتخذوا من الثقافة وسيلةً لتحقيق شكل من أشكــال النفـــوذ الاجتمــاعـــي، أو فرض لون ما من ألوان الهيمنة على عقول الوسط الشعبي العام، طمعاً بإرضاء سلطة ما، ورغبة في القرب من مركز من مراكز النفوذ. وهؤلاء عادةً لا علاقة لهم بالثقافة، ولم يمارسوا الفعل الثقافي من قريب ولا من بعيد. كل ما هنالك أنهم: مجرد أدعياء ليس أكثر، وجدوا في ادعاء الثقافة والتلبس بلبوسها البوابة الأقرب لتحقيق مصالحهم الشخصية.
2 - مثقفون حقيقيون؛ لكنهم ميّالون للارتباط بالسلطات السياسية، الأمر الذي يفرض عليهم اتباع سلوك منسجم مع موقعهم الجديد المرتبط بالسلطة، ويجبرهم على التخلي عن وظيفتهم النقدية، التي كانوا يمارسونها لتعزيز الوعي العام قبل أن يصلوا إلى هذا المستوى من الارتباط بالساسة، الذي يمنعهم أن يبدوا شيئاً من الأفكار النقدية الهادفة لتصويب أو تصحيح أو تقييم أي أمر من الأمور. وهم بهذا التوجه قد جعلوا أنفسهم بموقع التابع، الذي لا يملك سوى تنفيذ الأوامر الصادرة إليه دون نقاش. ولا ضير لدى هذا الصنف من المثقفين في تعارض ما يؤمرون به مع قناعاتهم وأفكارهم ومعتقداتهم، طالما سينتج عن تنفيذهم لها تحقيق منافعهم الذاتية، التي تتفاوت بتفاوت الموقع والدرجة بينهم من شخص لآخر، وذلك باعتبار اختلاف حجم ذلك الارتباط، ومستواه ونوعيته. ثم إنهم على استعداد للتضحية بكل شيء في سبيل الحصول على المال الذي يؤمِّن لهم حاجاتهم الحياتية الكثيرة والمتنوعة.
* نقلا عن : لا ميديا