لقد أبلى معي بلاءً عظيماً، طوالَ سنواتٍ عجاف، عظم فيها الكرب، وضاق بإزائها الحال، وقَلّت حيلة ذات اليد أمام تقلبات أيام وليالي تلك السنين المشؤومة، وما كانت تفاجئنا به من مصائب وأزمات وكوارث ومشكلات، توزعت ما بين مرض، وبطالة، وإقصاء من العمل، دون وجه حق، اللهم إلا إرضاء لغرور نافذ هنا، ورد لاعتبار فاسدٍ هناك، وإشباع لرغبة فاشل حاسد حاقد هنالك، فيراني مهزوماً ضعيفاً عاجزاً، لا أقوى على تأمين القوت الضروري لولدي وأمهما، ولولا صحيفة «لا» التي كانت الملاذ بعد الله، ويد رئيس تحريرها، الأستاذ الأديب المتربع قلوب الأحرار الخلص، والثوار الأنقياء، صلاح الدكاك، رعاه الله، لكنت اليوم في إحدى الجولات، لممارسة التسول، كضرورة لا بديل عنها، لولا «لا»؛ بعد الله لتحقق لذلك المأزوم مرامه، وأدرك حاجته، وبلغ مناه مني، وكذلك كان لصديقي الصدوق، وصفيي من الخلق، وشريكي في كل الظروف الدور الكبير، والمواقف الجليلة، والمساعي المباركة التي أعادت لي ثقتي بنفسي، وخففت عني من آلامي، وأزالت الحمل الثقيل من على كاهلي، إذ كان يغمرني بالسعادة، ليمنع عني تسرب الحزن، ويحيطني بالأمان، ليحجب عني مظاهر الخوف، ويزرع فيَ وينمي ويسقي زروع الصبر والقوة والشجاعة والإصرار والعزيمة والجد والأمل، ويجعلني أرى نفسي بمستوى مواجهة العالم، وفي حالة استغناء عن كل الناس، لا أهتم إلا بقول الحق، ولا أقف إلا في ساحته، متصدياً للباطل أياً كان مصدره، ولا أخشى إلا الله.
لقد علمني صديقي الصدوق هذا معنى قول أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حراً». علمنيها ممارسةً وتطبيقاً، إلى الحد الذي جعلها القاعدة الأساسية التي تستند إليها كل مواقفنا وكلماتنا ونمط حياتنا وأفكارنا وسلوكياتنا، فلا نقيم أو ننقد أو نؤيد أو نعارض أو نحب أو نبغض إلا بموجب ما توحيه هذه القاعدة، ولا نهتم بما يلي ما نطرحه من عواقب قد تعود علينا بالشر، مهما عظم.
ولكن أين صديقي اليوم؟ لماذا لم أعد أجد حتى صوته؟ كيف تركني هنا وحدي، وهو يعلم أنا لم نبلغ الغاية من اجتماعنا، ولم نحقق بعد ما تعاهدنا على تحقيقه يداً بيد من أهداف؟
يا صديقي! ليس من العدل أن تقوم بقطع ما بيننا من صلات وروابط، وتنزع يدك من يد صديقك ورفيقك وخليلك بسبب خطأ أخطأته بحقك، وإساءةٍ بدرت مني تجاهك، فقد اعترفت بخطئي، ودفعت ثمن تصرفي، وجئتك ملتمساً عفوك وصفحك، ومستعداً لفعل كل ما يرضيك، ومتعهداً ألا ترى مني ما يسوؤك أبد الدهر.
ثم أنت تعرفني، فلستُ شيطاناً، ولا انتهازياً، ولا لئيماً، ولا عديم خلق، ولا قليل دين، ولا متسلطا ظلوما أنانيا متعجرفا، وإن صدر مني شيء يعيب فذاك ناتج عن زلة، وليس منطلقا من طبع وعادة وطريقة حياة، وما يجمعنا أكبر من أن يهده موقف، أو تعصف به مشكلة ما، فعد فأنا هناك، حيث تعاهدنا أمام الله: أن نكتب بالدمع والدم والابتسامات أسمى رواية عرفتها البشرية عن اثنين اتحدا روحاً واتجاهاً وفكراً ومصيرا، وعاشا يكمل كلاهما صاحبه، ويستر عورته، ويسد خلاله، ويقف بجانبه حتى انقضاء الأجل، عد، فالمدرك هنا، لا سواه، والحقيقة ما بنيناه، وما عداها فليس بشيء.
* نقلا عن : لا ميديا