لم يزدد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، إلا عزماً وقوة إرادة، وثباتاً وتصميماً في مواجهة السرطان الأموي، وتخليص الأمة من الشخص المعكوس، والجسم المعكوس معاوية، على الرغم من كل ما قد لقيه الإمام من خذلان وتهاون في جيشه وحاضنته الشعبية، وكيف لا يمضي بثبات وهو الذي أقسم: ليمضينَ في قتال معاوية والبغاة، ولو بقي وحده، لذلك استمرت محاولاته لإصلاح الحاضنة، وإعادة تأهيل الجيش، حتى طالته يد الغدر الآثمة في محراب صلاته، ليفوز بحياة خالدة، ونعيم أبدي، وتنتهي مسيرة معاناته في الحياة الفانية المثقلة بالمحن والأعباء والحزن والبلايا، وفقد المجتمع بفقدانه إمام المتقين كل سبل الحياة الحرة الكريمة الطيبة، ليبقى على حاله، ميالاً للدعة والذلة والاستكانة، يكره الحرب، ويفر من القتال، فلا دين يجمع بنيه، ولا حمية تشحذهم، لكونهم خرقاً بالية، متهتكة، تمنى الإمام الموت مراراً على البقاء على قيد الحياة معهم.
وقد لاقى الإمام الحسن من ذلك المجتمع ما لقيه منه أبوه قبله، إذ أراد بعد توليه الخلافة أن يسير بنهج وسياسة أبيه، جاعلاً مناجزة البغاة، والقضاء على يد الشر والفتنة والتفرقة نصب عينيه، وقد اشترط على الناس لما أرادوا بيعته ما يحمي هذا القرار، ويدعم هذا الخيار، وذاك ما يؤكده هذا البند الذي جاء ضمن شروط البيعة، وهو: أن يكونوا له سامعين مطيعين، سلماً لمَن يسالم، وحرباً لمَن يحارب.
لكن المجتمع الذي خذل علياً لم يكن مع ابنه أحسن حالاً، فيكفر عن خطئه، ويكتشف عيوبه وأمراضه، ويرجع عن غيه، فما إن رُدت أيديهم عن يد الحسن عليه السلام، حتى جلس بعضهم إلى بعض قائلين: ما هذا لكم بصاحب! ورموا بما اشترطوه على أنفسهم عرض الحائط.
وقد واصل عليه السلام طريقه بصبر وحكمة في ترغيب النفوس للجهاد، حيث قام بزيادة عطاء المقاتلين 100%، ولكن المشكلة لم تكن مالية فحسب، في ذلك الصنف من الناس، المنجذبين للباطل، المبتعدين عن الحق، ولم تكن فكرية، بل كانت كما يقول الشهيد القائد: نقصاً في الإيمان بالله، لذلك كان من السهولة بمكان على معاوية أن يخترقهم، ويدس عيونه ومخبريه وجواسيسه فيهم، ويستميل رؤساء عشائرهم، وكبار قادتهم.
وقد دشن معاوية نشاطه التدميري هذا بإرسال شخصين، أحدهما إلى الكوفة، والآخر إلى البصرة، ولما ازدادت الأمور اضطراباً، وكانت أخبار الحسن تصل ابن هند أولاً بأول، بحث الإمام عن السر، ليكتشف وجود الرجلين اللذين كونا جيشا من الجواسيس والطابور الخامس، وقد أنزل بهما العقوبة الشرعية التي يستحقانها، وبعدها كتب الإمام الحسن عليه السلام إلى ابن هند قائلاً:
أما بعد، فإنك دسست الرجال للاحتيال والاغتيال، وأرصدت العيون، كأنك تريد اللقاء، لا أشك في ذلك، فتوقعه إن شاء الله، وبلغني أنك شمت بما لا يشمت به ذوو الحجى، وإنما مثلك في ذلك كما قال الأول:
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى
تجهز لأخرى مثلها فكأن قدِ...
وفي هذا ما فيه من إنذار وتهديد لابن هند في الحرب، وتأكيد على أن أمله في بسط نفوذه على العراق وبقية الأمصار لن يتحقق بالخديعة، لكن ما عسى عزيمة القائد الإمام أن تصنع، متى ما تم فل حدها من الداخل، على يد شيعته وأنصاره، وهكذا هم كل أعلام الهدى عبر العصور، ضحايا مريديهم وأتباعهم، قبل منابذيهم وأعدائهم.
* نقلا عن : لا ميديا