واصل معاوية نشاطه التدميري الخبيث لجبهة الحق المتمثلة بالشيعة بقيادة الإمام الحسن عليه السلام، إذ قام ابن هند بشراء الضمائر بالمال، واستقطاب الرموز القبلية والوجاهات الاجتماعية ضعيفي الإيمان، وعباد الدرهم والدينار، الذين طبعت قلوبهم وجبلت نفوسهم على النفاق، لكي يبثوا الدسائس في وسط الحاضنة الحسنية المحمدية، ولعل أبرز هذه الوجوه والشخصيات هم: عمرو بن حريث، والأشعث بن قيس، وحجر بن أبجر، وشبث بن ربعي، والمتتبع لمجريات وسير الأحداث والوقائع التاريخية المتعلقة بذلك العصر يستطيع أن يتوصل إلى الحقيقة التي تقول بأن معاوية بهؤلاء وأمثالهم قد استطاع بناء جبهة متكاملة وقوية في كيان المجتمع الحسني، هذه الجبهة لا عمل لها سوى بث الشائعات، ونشر الدعايات الباطلة، وفبركة الأخبار بما يخدم جبهة البغاة، وقد بلغ مستوى نفوذ تلك الجبهة المنافقة إلى الحد الذي تستطيع فيه التأثير على جيش بأكمله، كما هو الحال مع الجيش المرابط في مسكن، والذي خلف قيادته بعد فرار ابن عباس قيس بن سعد بن عبادة، إذ استطاعت إقناع ذلك الجيش بفرار قيس، والتحاقه بعسكر البغاة، مع أن قيساً بين ظهرانيهم، وما إن انقشعت آثار الشائعة تلك، وبدأ الجيش في مسكن يسترد عافيته حتى زلزلته شائعة أخرى، أشد ضرراً من سابقتها، وهي: أن الإمام الحسن قد صالح معاوية وأجابه.
ومثلما كان نشاط جهاز البغاة الدعائي فاعلاً في مسكن، كان كذلك في المعسكر الذي يقوده الإمام الحسن نفسه، والذي استقر في المدائن، حيث استطاع معاوية تكليف عناصر داخل ذلك المعسكر بنشر خبر كاذب مفاده: أن قيس بن سعد قد قُتل، فانفروا، فنفر معظم ذلك الجيش إلى سرادق الإمام الحسن، وكادوا يقتلونه، ولم يسلم حتى متاعه من سلبهم، حتى ذلك البساط الذي كان تحته.
وهكذا ندرك من خلال كل هذه الأمور، لماذا قبل الإمام بمسألة الصلح، الذي كان مطلب معاوية، الذي قام ببعث كتب أصحاب الإمام الذين ضمنوا لمعاوية تصفية الإمام والفتك به، إذ ما جدوى الاستمرارية في القتال للبغاة في ظل مجتمع عاجز عن النهوض بتبعات القتال، وانتزاع النصر؟ لا شك أن الإمام الحسن لو استمر على موقفه لحكم بذلك على نفسه وذويه والمخلصين من شيعته بالفناء، لتخلو بعدها الساحة لمعاوية يفعل ما يحلو له، في سبيل القضاء التام على الإسلام شكلاً ومضموناً، وعليه لا يجبر القادة الرساليين عبر الزمن على قبول المر، إلا ما يلاقونه من الأشياء التي هي أكثر مرارة من ذلك المر على يد الأتباع.