لايزال إعلامنا بالنسبة للكيفية التي يتعامل من خلالها مع القضايا الهامة والأحداث التي نتج عنها وجود تحولات كبرى، وتحققت بموجبها تغيرات إيجابية، على مستوى الفرد والمجتمع، لايزال منجذباً لطرق التناول التي تصنع الغموض في الأمور الواضحات، وتكون الضبابية الكثيفة حول الحقائق التي تبدو أمام العين كفلق الصبح، لا لبس فيها، وذلك نتيجة اتخاذ التناول الجزئي كأسلوب وحيد وحصري، لا يجوز العمل بأسلوبٍ سواه، أو مغادرته إلى غيره، إلى جانب احتكار فهم الأحداث والقضايا التي جرت وتجري في الساحة المحلية والإقليمية والدولية على مجموعة من الأفراد، الذين قد يكونون لأنفسهم إطاراً ينضوون تحته، ويوجدون لهذا الإطار اسماً يعرفون به لدى الناس، وبالتالي يصبح هؤلاء هم المعنيين في تحديد كيفية التناول لهذه القضية أو تلك، وما الذي يجب أن يقال إزاء هذا الحدث أو ذاك، كل ذلك يتم تعميمه بين الفينة والأخرى كمحددات، وبحسب ما عايشته لفترة طويلة، كانت الإذاعات هي الهدف لكل هذه التوجهات، التي على المعنيين بتلك المحطات تطبيقها حرفاً حرفاً، والالتزام بها كلمةً كلمةً، ودون نقاش، وهنا تصبح كإعلامي مجرد ناقل فقط، لكل ما يُطلب منك القيام بنقله، دون أن يكون لك أي إسهام في توسيع الموضوع، أو زيادة إثرائه، من بعيد أو من قريب، الأمر الذي يحيلك إلى مجرد آلة، إذ مع مرور الزمن تموت نباهتك، وتختفي مواهبك، وتصدأ عقليتك، وتُحد نظرتك، وتنحصر أفكارك، عندها تلجأ لتغطية الكثير من مساحة بثك بسيل من السخافات، ووابل من التهريج، فتستوي الإذاعة بسوق الخضار، ويصبح الاستديو أقرب إلى مقايل القات أو مجالس التفرطة.
ولعل ما يضحك المتأمل ويبكيه في الوقت ذاته، هو عندما يحضر في ورشة داخلية، أو دورة تدريبية وتثقيفية، فتُعرض أمامه وثائقيات ومقابلات ولقاءات، تعود جميعها إلى تاريخ معين من زمن المسيرة القرآنية، أو تحكي تفاصيل مرحلة من مراحل التحرك الثوري والجهادي، وهي على درجة عالية من القوة الفكرية والثقافية، وفيها من القيم والآثار ما لو تم تقديمها إلى الناس لكانت كفيلةً ببناء جيل واعٍ، ومجتمعٍ جهاديٍ وإيمانيٍ موحد ومتماسك ويقظ وفاعل، ولاسيما تلك التفاصيل المتعلقة بالحرب الأولى، التي ما إن تتم لحظة مشاهدتها، حتى يأتيك التنبيه شديد اللهجة، بعدم التطرق إلى ما رأيت أو سمعت نهائياً، لا في برنامج ولا في منشور ولا في مقال، مع أن كل ما في تلك المواد مجلبةٌ للفخر، وموردٌ للاعتزاز، ومبعثٌ على التأسي والاقتداء، ثم إن تلك المواد هي مواد تربوية وتثقيفية، وليست أمنية وعسكرية حتى تعطي أولئك المبرر لإبقائها في دائرة الأسرار التي يصبح الحديث عنها جريمة، تصل إلى مستوى الخيانة العظمى!
فمَن المستفيد من ضياع الكثير من تفاصيل نضالنا الثوري، وتحركنا الجهادي؟ ولماذا الدفع بسرعة نحو كل ما هو جديد، مع عدم السماح لدراسة كل ما قد قطعناه، أو إثارة الحديث حول الكثير من تفاصيله وأبعاده؟
* نقلا عن : لا ميديا