كان الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كما ذكرنا بالأمس، حريصاً على أن يبين للأمة كيف يكون الشخص الذي يحكمها، فالقصة ليست قصة الذات في موقعها الاجتماعي، ولا في جمالها وهيبتها ومقدار ما تملك من مقومات القدرة على التأثير في محيطها بما يمكنها من تحقيق الغلبة والنفوذ، وإنما هي قصة برنامج إلهي متكامل، على مَن يود الانطلاق في تنفيذه أن يذوب فيه، بحيث إذا حدق الناس في شخصه، ونظروا في حركته، واستمعوا لحديثه، فإنهم يجدون المبادئ والأفكار والتشريعات التي تعاقد معهم مَن صار حاكماً عليهم على تنفيذها كمشروع حياة شامل لكل مقتضيات الواقع.
ومن أبرز سمات هذا المشروع أو البرنامج الذي لا بد أن يتجسد عملياً في حركة الحاكم وتتحدد من خلاله علاقة المجتمع به وعلاقته بهم، أنه يعمل على: رد الناس إلى معالم الدين الواضحة وينابيعه النقية الصافية التي لم يعترها زيف ولا تحريف، ولم يخالطها غش أو كدر. وهو يعمل على تحقيق الإصلاح التام بالمستوى الذي يجعلك وأنت تمشي على أي بقعةٍ من الأرض التي تحتكم لذلك النهج ترى مظهراً من مظاهر ذلك الإصلاح، الذي في ظله تحقق العدل والأمان للمظلومين والمستضعفين من عباد الله.
كما أنه لا يقبل بأن يقر الحاكم الظالم على ظلمه، ويتغاضى عما يلحق المظلوم من ويل وأذى وضيم، لأن ذلك عهد الله الذي أخذه على كل عالم بالحق «ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم»، وإن حصل تواطؤ في ذلك فقد خانوا عهد الله وفرطوا بميثاقه.
وهنا يجب أن نسأل رجل العدالة الإنسانية، وإمام البلغاء والأتقياء عليه السلام، كيف نعرف أن هذه السلطة أو الدولة أو تلك دولة ذات قيمة؟ يجيب عليه السلام من واقع نظرته للحكم والحاكمين، ومن موقعه كأمير للمؤمنين، أن قيمة أي سلطة تنطلق باسم الله وتنتمي للإسلام، يحددها مدى حرص تلك السلطة على إقامة الحق ودحض وإزالة الباطل، وما لم تكن كذلك فهي لا تعد شيئاً يستحق أن نفكر مجرد تفكير بأن نضعها بميزان القيم، فهي مهما ارتقت في أي مجال من المجالات الأخرى، ومهما امتلكت من عوامل القوة المادية، ستبقى بالمستوى الذي يجعل للحذاء قيمةً أعظم وأسمى منها، وهذا ما اشتمل عليه قوله لابن عباس عندما استنكر عليه قيامه بخصف نعله وهو أمير المؤمنين: «والله لهي أحب إلي من إمرتكم هذه، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً».
* نقلا عن : لا ميديا