يختلف مفهوم السلطة في فكر وثقافة وتجربة الإسلام المحمدي الأصيل عن المفهوم الذي تقدمه الفلسفات والأفكار والتجارب الإنسانية الأخرى، إذ يجد المتتبع لحركة النبي الأكرم (صلوات الله عليه وعلى آله)، في بناء المجتمع المسلم من حيث العلاقات والنظم والتشريعات، أن الإسلام لا يعترف بأي سلطة إلا عندما تكون خاضعة بكل أبعادها وتصوراتها للمنهج الإلهي، بحيث تصبح مواقفها وحركتها وأعمالها هي التجسيد الحي لكل ما شرعه الله، إلى الحد الذي ترى فيه أن الحاكم وإن كان نبياً فإن علاقته بالمجتمع لا تقوم على أساس شخصيته، وما يتميز به من مكانة وخلق وقرب من الله، وإنما على أساس البرنامج الذي يقدمه للناس، وائتمنه الله على تبليغه واستنهاض الناس به، وهذا ما توضحه الرواية القائلة: إن النبي (صلوات الله عليه وآله)، قبيل التحاقه بالرفيق الأعلى قدم أمام الناس حساباً ختامياً عن طبيعة المرحلة التي قادهم فيها، والتي لم يقم على مدى تلك السنين بأي عمل أو بإصدار حكم أو تشريع تبعاً لرغبة ذاتية، أو نتيجة هوى أو مزاج شخصي، إذ يقول: «أيها الناس إنكم لا تعلقون علي بشيء، فلن أحل إلا ما أحله الله، ولن أحرم عليكم إلا ما حرمه هو سبحانه وتعالى».
وهل هناك مَن سيشك مجرد شك بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون ما قاله؟ بالطبع لا، ولكنه أراد أن يربي الناس على الوعي الذي يجعلهم حاضرين في كل مقام، ولديهم النباهة الاجتماعية التي تمكنهم من مراقبة كل من يُعنى بتحمل مسؤولية منهم، ليحموا واقعهم من الزلل والانحراف.
وكذلك كان أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، مع أن إمامته لم تكن شأناً اختيارياً للناس بحيث هم مَن يقومون بوضعه في هذا المقام ويعطونه هذا المنصب، وإنما هي اصطفاء واختيار من الله تعالى، وهكذا الأمر في ما يتعلق بنبوة النبي (صلى الله عليه وآله)، فها هو الإمام علي يؤكد وظيفة السلطة في الإسلام في عدة مواضع من الكثير من كلماته وخطبه وابتهالاته، من ذلك ما ورد في أحد أدعيته، إذ يقول: «اللهم إنك تعلم أن الذي قد كان منا لم يكن منافسة في سلطان، أو التماساً لفضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك».
ومثله قوله: «والله لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذه الله على العلماء، ألا يقاروا على كظة ظالمٍ، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه عندي أزهد من عفطة عنز». وكذلك قوله عن نعله: «والله لهي أحب إلي من إمرتكم هذه، إلا أن أقيم حقاً، أو أدفع باطلاً».
* نقلا عن : لا ميديا