«فلان صداميٌ، ومثيرٌ للإزعاج والبلبلة، في كل ما يقوله أو يكتبه»! مقولةٌ لطالما سمعناها تُرددُ على ألسنة الكثيرين هنا وهناك، فيا تُرى ما هو مفهوم الصدامية لدى هؤلاء؟ ثم ما الذي يعنونه بالإزعاج وإثارة البلبلة؟ هذه التساؤلات وغيرها الكثير تقودك إلى البحث والنظر في اتجاهين: في فلانٍ هذا من حيث طبيعة ما يثيره من أفكار وقضايا ويقترحه من حلول ومعالجات أولاً، ثم في أولئك الذين يبادرون في إصدار الأحكام بحقه، من حيث الدافع لهم كي يقفوا منه هذا الموقف، وإلى أي مدى كانوا صادقين أو كاذبين في دعواهم، وهل كانت تلك الأحكام هي السياج المنيع الذي يضربونه حول الدين والقيم والأخلاق والمسار التحرري والنهج الثوري بغرض حماية كل ذلك من عبث العابثين، وتحركات الطامعين والمغرضين والمنافقين؟ أم كانت فقط هي الوسيلة التي لا بد منها لتوفير ما يحتاجونه من الحماية لمصالحهم وامتيازاتهم ومواقعهم، والغطاء الوحيد الذي يتمكنون عبره من الإخفاء لعجزهم وفشلهم في فعل شيءٍ يذكر، في ما له صلة بالمهام الموكلة إليهم والمسؤوليات الملقاة على عاتقهم ثانياً؟
صحيحٌ ليس كل منتقدٍ لطريقة معينة في الجانب العملي أو الفكري أو غيرهما لا بد أن يكون مخلصاً في توجهه وصادقاً في دعواه، ولكن ذلك لا يعني بأي حالٍ من الأحوال خلو ساحة الناقدين والناصحين من الصادقين والحريصين على أمتهم ودينهم ومكتسبات ثورتهم، والمخلصين لربهم في ما يتناولونه بالنقد والتحليل والدراسة، كما يجب علينا أن نفرح بوجود ظاهرة النقد كمسؤولين، بل وأن نسعى على الدوام لتنميتها وتعزيزها، حتى تصبح هي الطابع العام لكل أبناء المجتمع، إذ بوجودها نضمن استحالة سقوط شعبنا في مربع الوصاية والعمالة والتبعية مجدداً، وبوجودها نضمن استمرارية التحرك الشامل لتحقيق البناء الحضاري القوي والراسخ والمتماسك، ونيل الحرية والاستقلال مهما كانت التحديات.
أما مَن يسعى لتجريم النقد، ويعمل على جعل كل الناس لا يرون الحياة إلا بعينه، ولا يسمعون الأشياء إلا من خلال ما تسمعه أذنه، ولا يمتلكون القدرة على تمييز الأمور من حيث علاقتها وقربها من الحق أو الباطل إلا بعد أن يزنها هو بميزان فكره، فنقول له : يا هذا، لن تكون أحرص على دين الله، ومصالح العباد، من الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي شجع الأمة وحثها على أن تراقب كل خطواته كحاكم، وأن تنتقده في ما لو رأته انحرف عن المشروع الذي أعلنه لها، وتعاقد هو وإياها على تنفيذه، وبين لها المعايير التي تمكنها من التمييز بين الصادق والكاذب وإن كانت ادعاءاتهما واحدة، فإن العبرة بالعمل وليس بالقول، فكم من الناس مَن تلهب كلماته العواطف وتجتذب القلوب، وتثير الإحساس بالإعجاب به، وما إن يصل إلى مبتغاه حتى يعمل بالفساد والإفساد، ويسعى لإهلاك كل مظاهر الحياة المتحركة والنامية، مسلطاً على رقاب الناس سيف طغيانه، كلما قيل له: اتقِ الله، جاعلاً من آثامه ديناً يدين الله به، وشريعةً لا يحكم إلا على أساسها.
* نقلا عن : لا ميديا