كم هم حمقى ومغفلون أولئك الذين يعتقدون أن التزامهم بالإيمان في مراحل سابقة يبرر لهم التملص من ذلك الالتزام في ما يستقبلونه من مراحل زمنية لاحقة، بحيث يعطون لأنفسهم الحق في الأخذ بأحكام الباطل التي سبق لهم أن رفضوها، وممارسة أساليب البغي التي لطالما حاربوها، وتبني سياسات الظلم والفساد والتمييز على أساس العرق أو الانتماء أو المكانة أو الفكر، التي سبق لهم أن تمردوا عليها.
إنها الغفلةُ عن سنةٍ إلهية جرت مجرى القوانين الحتمية التي تحكم حركة الكون، وتنظم العلاقة بين مختلف مكونات الطبيعة، حيها وجمادها، قليلها وكثيرها، ظاهرها وباطنها؛ سنةٌ قضت بأن: على كل مدعي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، البقاء في انشداد دائم إلى الأصل الفكري الذي حركهم في البدايات، وحدد لهم المباني والمنطلقات التي توحد بين القول والمعتقد والعمل، بحيث لا يكون للطريق الطويل الذي يقطعونه في حركة الحياة من منطلق المسؤولية على كل شيء فيها أدنى تأثير من شأنه أن يجعلهم يمارسون السلبية، باسم الإيجابية، ويقدمون الانحراف بزي الاستقامة، ويجملون الباطل بعناوين تدل على الحق، وإنما يبقى الإخلاص في الفكر والقول والفعل هو العنوان الذي يحكم حركتهم في كل المراحل، ويعزز ثباتهم عند كل منعطف، وفي ظل وجود أي عارض قد يلاقونه في ما قد يطرأ على الواقع حولهم من أحداث ومتغيرات، وعواصف وزلازل تستدعي إعلان موقف، وتحديد وجهة، واتخاذ قرار ما إزاء ذلك كله.
من هنا تظهر للعيان علامات الاختلاف بين مؤمن ومؤمن، فالأول يعيش حالة الحرص على أمته من السقوط، من خلال عمله المنضبط بضابط استشعار الرقابة الإلهية، والقائم على ضوء الالتزام بالعقيدة كهمٍّ يومي، وعنوان للسلوك، وقاعدة للمعرفة، وأسلوب للممارسة، وأساس للفهم، وعامل للنهوض بالمسؤولية، وتحقيق الخير والصلاح على أرض الواقع، وذاك ما يُؤكد طهارةَ نفسه من كل خبث، ونزاهة عقله من كل ضلال، وخلو قلبه من كل شرٍّ أو فسادٍ أو حسد أو حقد أو كبر، وهو المدرك أن مراحل الحصول على شيء من الأمن والاستقرار، أو القوة والجاه، أو المال والقدرة، التي يقضي بها الوصول إلى مقام البدء بالتحول من واقع الاستضعاف إلى واقع التمكين، هي المراحل الأشد خطراً على الرسالة في حركتها الحاضرة والمستقبلية، من مراحل الصراع والمواجهة التي قضتها مع قوى الكفر والاستكبار والظلم والعدوان، لأن الصراع كان مع عدو ظاهري يمكن التغلب عليه، حتى وإن استمر الصراع قروناً من الزمن، وصاحبته خسائر مادية بالنسبة لجبهة الحق، أو استوجبته الضرورة من توطين النفوس على دفع كلفة تحقيق ذلك النصر من أغلى ما لديها من مال ورجال، بينما في مراحل التمكين يبدأ الصراع مع عدو آخر، يعيش في دواخلنا، ويتحرك في كل ساحاتنا، عدوٌّ لا تراه العين، ولا تحد من حركته مسألة امتلاك القوة العسكرية؛ إنه العدو الذي عد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم جهاده بالجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس.
أما الثاني فهو ذاك الذي وجد الهوى والطمع وكل شر وفساد فيه ملاذاً آمناً، ومرتعاً مهيأً للعيش والتمدد والاستمرارية؛ لكون نفسه معجونةً بطينة الخبث، مغرقة بتمثل الكبر، نزاعةً إلى التخلص من كل قيد يربطها بالحق، جاحدةً كل نعمة، زادها في كل ما تعمل الغفلة عن الله، وطريقها المتبع في كل خطوة تخطوها الانحراف عن صراطه، والكفر بتعاليمه. إنها النفس الخبيثة، التي تاهت عن الهدى بعد علمها به، واختارت الضلالة من موقع البغي لا من موقع الجهل، وعاشت الغفلة، من موقع التمرد والعصيان، إرضاءً لنزعة شيطانية، أو رغبةً في تحقيق مكسب زائل، أو أملاً بالحصول على مكانة معينة، أو تبريراً لحالة من حالات الواقع الفاسد، أو تماهياً مع وضعية مزرية. ومع ذلك فالخيبة منتهاها، وإن بدا لها الأمر سهلاً، فتفتري على الله ما لم ينزل به سلطاناً، أو تعمد لترويج ثقافة الجهل باسم العلم، فيصير الظلم عدلاً بميزانها، أو تقوم بتقطيع كل الدروب المؤدية إلى الكمال والزكاء لدى المجتمع، بحيث تصرف جل ما لديها من وقت أو جهد على ما يغذي الانحطاط، وينمي الدعة، ويعمم السخافات والحماقات والترهات والعبثية على الواقع كله.
* نقلا عن : لا ميديا