اثنا عشر عاماً قضيناها في مركز النور لرعاية وتأهيل المكفوفين بصنعاء، وهي المدة التي تم لنا من خلالها تحقيق النجاح في التحصيل العلمي، عبر مرحلتين دراسيتين: مرحلة التعليم الأساسي (من الصف الأول حتى التاسع)، ومرحلة الثانوية العامة، التي قضيناها في المدارس الحكومية العامة، كترجمة لما يُعرف بمشروع الدمج الاجتماعي لذوي الإعاقة. وتبقى مرحلة التعليم الأساسي هي المرحلة الأكثر تميزاً وعطاءً وأثراً، مقارنةً بالمرحلة الثانوية، التي تشاركنا فيها مع المبصرين، وقد فاجأنا ما وجدناه هناك، بدءاً من نقص المدة الزمنية للحصص الدراسية، والتي تقل ربع ساعة عما اعتدنا عليه في دراستنا السابقة بمدرسة المركز، وصولاً إلى أسلوب التدريس المتبع هنا من قبل المعلمين؛ إذ يكتفي كل واحد منهم بكتابة الدرس على السبورة، دون أن يقوم بشرحه، ثم يخصص بعد ذلك خمس دقائق للحديث عن الواجب المقررة كتابته على التلاميذ المبصرين في البيت، ولم يخرج عن هذه القاعدة سوى أستاذ اللغة العربية، الذي كنا معجبين بشرحه، وسعة معارفه في مادته، وقدرته على تقديم أشياء تفوق ما هو موجود في المقرر، وكذلك أستاذ القرآن الكريم، أما البقية فلم نكن نعرف أين وصلوا في الدروس إلا قبل الامتحانات الشهرية، أو النصفية، أو النهائية، وذلك عن طريق سؤال الزملاء: أين وصلنا؟ وما هو المقرر، أو المحذوف في هذه المادة أو تلك؟ وهذه كارثةٌ بحد ذاتها؛ ولكن مَن سيستشعر مدى خطورتها؟!
لم نكن -كطلاب يعيشون في سكن داخلي- بمعزل عن الوقوع في الأمراض الاجتماعية المختلفة؛ لأننا أبناء مناطق شتى، ومن محافظات عدة، وقد تكفل كل واحدٍ منا بنقل عدوى المرض الذي تعاني منه بيئته إلى زملائه الآخرين، الأمر الذي جعل من مجموعة من الطلاب الذين يعيشون في مكان واحد، ويحملون هماً واحداً، ويسعون للغاية ذاتها، مجاميعَ متباعدةً متباغضة متناحرة، ففلان خباني، وفلان برغلي، وفلان مزيِّن، وفلان قبيلي... وهكذا. عملت العفونة المناطقية والعرقية عملها فينا، إلى جانب أسلوب التفرقة المعمول به من قبل القائمين على المركز، والذين كانوا يتخذونه وسيلة للاستقطاب الحزبي، والعمل التنظيمي لصالح الحزبين اللذين بقيا ثلاثة عقود ونيف يتقاسمان النفوذ والسيطرة على كل شيء، حتى دور ومراكز وجمعيات الرعاية الاجتماعية والتأهيل العلمي، ولا يزال أثر ذلك باقياً حتى الساعة، وخلال مرحلة الألفين اشتد الصراع بين ممثلي الحزبين، ليصل في نهاية المطاف إلى تفرد أحدهما بإدارة المركز. وكان اللافت في هذا سلوك حزب الأوساخ، الذي عندما سيطر على المركز ولم يستطع فرض سياسته وأيديولوجيته على بعض الطلاب، لجأ إلى تشويههم لدى زملائهم وأهاليهم، وذلك باختلاق أكاذيب ودعايات، وبث شائعات لا تقف عند حد، ولا تراعي حرمة، ولا تكترث بدين، أو تتقيد بقيمة خلقية أو اجتماعية، مما يجعل الطالب الكفيف أمام خيارين: إما أن يضحي بسمعته، فيبقى معزولاً بين زملائه، منبوذاً من أهله، وإما أن يتنازل عن فكره وقناعاته، ويقبل خاضعاً بفكرهم، وينصاع لكل ما يطلبونه منه دون نقاش، وينفذ كل ما يأمرونه به دون تردد.
مشهد تعسفي
في هذا المشهد تقف بي الذاكرة على صورتين توضحان طبيعة تعامل أحد مدراء إدارة مركز النور للمكفوفين، فترة دراستي هناك. الصورة الأولى كانت في شهر رمضان، وذلك لما علم المدير أن بعض الطلاب لا يصلون تراويح، فقال: إذا كانت صلاة التراويح جماعة سنة لدى بعض المذاهب، فأنا من اليوم سأجعلها فرضاً على كل طالب في السكن الداخلي. فكان بعضنا يقول قبل أن يقوم بتكبيرة الإحرام لصلاة الجبر هذه: اللهم إني قد قمت بما فرضت عليّ، ونويت القيام بما فرضه المدير، فالعنه لعناً كبيراً!
أما الصورة الثانية فهي لطالب في الصف السابع، يتيم الأبوين، يقف الآن في صفه، وسط ساحة الطابور الصباحي، ودون مقدمات: انهالت عليه يد ورجل مشرف الطابور صفعاً وسحباً ولكماً وركلاً، حتى وقع على الأرض باكياً، مع بقاء المشرف على ما هو عليه دون توقف. سأل الطالب بحزن: ما فعلت بك يا أستاذ؟! أجابه قائلاً: أين الزي؟ هنا وصل المدير، فذهب الطالب يشكو إليه مشرف الطابور، ولما عرف المدير كل شيء، بادر الطالب بالقول: بكرة لا تأتِ إلا بزي! رد الطالب: ليس لدي المبلغ الذي يمكنني من شرائه. المدير بعصبية واستعلاء: إذا كان أهلك قد رموا بك شبراً، فأنا سأرمي بك ذراعاً وذراعين وعشرة وميل وميلين وألف ميل حتى، لا مشكلة!
* نقلا عن : لا ميديا